كيف يمكن أن نواجه هذه المشكلة؟…أعداد الجامعات السورية تزداد ويتواصل الانخفـاض في مستواها التعليمي

 لقد تناول العديد من تربويينا قضية الأزمة التي يمر بها التعليم بمجمله في البلاد، من حيث التردي الواضح في نوعيته وجودته، والذي يعكس إلى حد كبير ما تدل عليه المؤشرات والإحصاءات من تعثر المجتمع السوري في مسيرته التنموية. إنها إما مازالت تراوح في مكانها، بل حتى تتراجع مؤشراتها بصورة كارثية بعد اندلاع الأزمة مقارنة بالمؤشرات العالمية في بعض الدول الأخرى.

إن المؤشرات الإحصائية هي التي تتكلم! فماذا يعني وجود مليونين ومئة وثلاثة عشر أمياً في سورية عام 2011؟ (1) وهذا العدد يزداد، وماذا تعني نسبة تكاثر ونمو سكانية تبلغ أكثر من 2,5 أو أكثر؟ (2)، وماذا يعني بأبسط أحواله أن على سورية لمواجهة الزيادة الكبيرة في عدد طلبة التعليم الأساسي أن توفر مبالغ طائلة جداً؟ وماذا عن دور الجامعات ومؤسسات التعليم العالي التي يبلغ عددها 6 جامعات حكومية و15 جامعة خاصة (3) والتي تتراجع حصتها من إجمالي اعتمادات الموازنة التي بلغت19 مليار ليرة عام ،2012 أي 2% من إجمالي الاعتمادات وبلغت عام 2016 نحو 32,85 مليار ليرة، أي نحو 1,66 من إجمالي الاعتمادات (4)، (مع العلم أن التضخم يزداد في سورية بصورة متسارعة)؟ ومن الواضح أنه مع كل هذا النمو الكبير في أعداد الطلبة والجامعات، تبقى معدلات الإنفاق السنوي على طالب التعليم العالي متدنية جداً (أقل من ألف دولار)، سنوياً، في حين وصل الإنفاق في جامعات بعض الدول المتقدمة إلى نحو 45 ألف دولار (5).

وهناك إحصاءات مثيرة أخرى في هذا المجال، تشير كلها إلى وجود مشاكل بنيوية حقيقية في التعليم والتعليم العالي على وجه الخصوص، وإلى اختلالات في النسب والموارد والإمكانات، وإذا لم يتم التصدي لهذه التحديات والمشكلات الآن، فمتى؟….إن (الأزمة) موجودة وحقيقية، وإذا لم يحدث (الإصلاح) فإنه قد يصبح من الصعب جداً معالجتها، وستكون النتائج وخيمة وستؤدي إلى مزيد من التراجع، أو في أحسن الأحوال إلى استمرار حالة الركود والجمود.

يؤكد أغلب الخبراء في التخطيط التربوي ورسم الاستراتيجيات العليا للتعليم العام، أن التعليم العالي ما هو إلا حلقة من حلقات السياسة التربوية في أي بلد، وأنه لا توجد فواصل بين شتى مراحل الدراسة، الحضانة، الابتدائية، الثانوية، المرحلة الجامعية الأولى ومرحلة الدراسات العليا.. إن تبني مثل هذا المفهوم سيحدث تحولاً جذرياً وبنيوياً في رسم الاستراتيجيات العامة للتعليم في البلاد.. كما يتطلب إعادة نظر شاملة في السياسات التعليمية وهياكلها الإدارية وقوانين التعليم الأساسي والعالي والأنظمة المعمول بها.

لقد بلغ عدد أجهزة الحاسوب 45 حاسوباً لكل ألف شخص سوري عام ،2011 أما في بعض البلدان المتقدمة فقد وصل إلى نحو 400 جهاز (6) للعام نفسه. كذلك تبين أن نسبة مستخدمي الإنترنت هو 50 لكل 1000 شخص، بينما يصل هذا الرقم إلى أكثر من 35% في الولايات المتحدة الأمريكية للعام نفسه (7).

لا يختلف اثنان على ضرورة أن تقوم مؤسسات الدولة الوطنية بالدور الأساسي في تخطيط ورسم الاستراتيجيات العامة، ويجب أن يتم ذلك بمشاركة فاعلة وحقيقية من المؤسسات المدنية والمنظمات غير الحكومية. ولقد ثبت عبر حقب التاريخ أن (المركزية) والسيطرة والتحكم التفصيلي في شؤون مؤسسات التعليم العالي هي أسلوب غير مجد على المدى البعيد، ويتناقض كلياً مع فلسفة استقلال المؤسسات التربوية. المهم هنا هو أن تكون الدولة قادرة على بلورة فلسفة واضحة لسياسة التعليم ككل بجميع مراحله، وأن تقوم مؤسسات الدولة بدور الراعي والمنسق وليس بدور الشرطي.

الجامعة والاستقلال

بالرغم من أن قانون التعليم العالي في سورية ينص على أن الجامعات هي تحت إشراف مجلس التعليم العالي، فإنه يجب تأكيد ضرورة إعطاء الجامعات درجة من الاستقلال لحمايتها من الضغوط حتى تكتسب القدر الكافي من المصداقية والقدرة على تطوير عملها مع الزمن، وحتى تستطيع أن تقوم بدورها الكامل في التحفيز على التطوير المستمر. وبصورة عامة ومن أجل أن يقوم المجلس بالمهمات الموكلة إليه، فإنه يحتاج إلى توفير خدمات كثيرة للجامعات، وليس الاكتفاء باتخاذ قرارات الموافقة أو عدمها.

إن الجامعات تحتاج إلى توافر آليات مستقلة ومتخصصة وذات مصداقية لتقييم أدائها المؤسسي، وإلى تقييم برامجها وتقييم أداء الطلاب وتقييم المشاريع البحثية التي يقدمونها.. ومن خلال هذه الآليات تستطيع الجامعة أن تقارن كل جانب من جوانب أدائها بالجامعات الأخرى المحلية والإقليمية والدولية، وأن تطور ذاتها باستمرار، فتحصل بجدارة على تمويل الدولة لبرامجها التدريسية، وتمويل مشاريع بحوثها من الجهات المعنية، إلى اجتذاب المنح، وهذا يتطلب وجود هيئات متخصصة وطنية للتقييم، تعمل وفق قواعد معلنة وشفافة، وذات قدر كاف من الاستقلال عن الجامعات وعن مجلس التعليم العالي. ومن خلال هذه الحلقات الوسيطة تتحول العلاقة بين الجامعة والدولة إلى علاقة مشاركة وتعاون، ويكون دور المجلس موجهاً نحو تنظيم وتحفيز نشاطات التعليم العالي بدلاً من التحكم الخانق فيها.

كما أنه يجب التمييز بين دور المجلس في مراقبة عمل الجامعات كمعاهد للتدريس، وبين توجيه نشاطات البحث العلمي وتمويلها، وكما هو معروف فإن نشاطات البحث العلمي ليست محصورة بالضرورة داخل الجامعات، إذ هناك العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة خارج إطار الجامعات تقوم بنشاطات بحثية، وتقدم الجامعات من جانبها للباحثين المتطلبات البحثية الأساسية من تمويل محدود وتوفير للدعم الفني والإداري، في حين تتولى تمويل مشاريع الأبحاث بشكل رئيسي جهات خارجية حكومية أو خاصة محلية أو إقليمية أو دولية.

حرية البحث

وهذا يعني أن الجامعة ومجلس التعليم العالي مسؤولان عن توفير البيئة اللازمة لعمل الباحثين، وبضمن ذلك حرية البحث. كما أن مجلس التعليم العالي لابد أن يكون معنياً بصورة غير مباشرة بأداء الجامعة البحثي، لأنه جزء لا يتجزأ من أدائها العام، إلا أن تحميل المجلس صلاحية الإشراف على توجيه وتمويل البحوث بدلاً من توكيل الأمر إلى مجلس مستقل ومتخصص هو خلط مضر، ومبالغة خانقة في المركزية والتقييد.

لقد آن الأوان لمؤسساتنا التعليمية والجامعة منها بالذات، أن تسعى لتعليم عال له وظائف محددة المعالم، واضحة الأهداف، تمكنها من مواجهة تحديات العصر، عبر إعداد الفرد القادر على المساهمة الفعالة في شتى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لتأخذ البلاد مكانتها اللائقة في التطور العلمي الحديث، وتستوعب التقنيات، وتصبح مؤهلة لمواكبة التطور السريع في ظل المتغيرات العالمية المذهلة.

إن عليها أن تسعى لتعليم له رسالة واضحة وأهداف محددة وإجراءات ونظم سليمة وسياسات قبول ملائمة وبرامج وخطط دراسية فعالة.. كما عليها أن توفر مرافق وتجهيزات كافية وهيئات تدريس كفوءة وطرق وتقنيات تدريسية متطورة، دون إسقاط لوعيها الدائم بخصائص الواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وأن يتم التركيز على تحقيق نتائج واضحة للعملية التعليمية بكل أبعادها من إعداد جيد ومهارات متطورة للخريجين والدارسين، وتنمية للإبداع، وبث الحيوية في المناخ الفكري والثقافي، إلى جانب تعزيز قنوات الاتصال والتفاعل البنّاء مع جهات العمل، وتلبية احتياجات سوق العمل، وتقديم الاستشارات والخدمات المناسبة.

إن الربط الوثيق بين برامج وأنشطة التعليم الجامعي وسوق العمل والإنتاج وميادين الحياة العملية أمر لابد منه في ضوء الوظيفة الأساسية للتعليم الجامعي اليوم، وهي إعداد الكوادر البشرية رفيعة المستويات العلمية والثقافية والتدريبية لاقتحام ميادين التنمية في كل المجالات، فالتحديث والتطوير في التعليم العالي من خلال التكنولوجيات المتقدمة، يؤدي بالضرورة إلى تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كبرى، من أبرزها تغير طبيعة المهن، والاتجاهات المتعلقة بها والمترافقة معها، والمشاركة في خلق جيل سوري جديد يعتمد على العقلانية في التفكير ويتبنى الثورة المعلوماتية كأساس للنهوض بالمجتمع.

*************

(1)- التقرير الإقليمي للتعليم الجميع، لعام ،2014 وخاص بالدول العربية، صادر عن اليونيسكو.

(2)- المصدر نفسه.

(3)- مكتب الإحصاء المركزي عام 2013.

(4)- وزارة التعليم العالي عام 2016.

(5)- أزمة التعليم العالي، مقاومة الإصلاح، د. أمين محمود.

(6)- المصدر نفسه.

(7)- المصدر نفسه.

العدد 1107 - 22/5/2024