هل الرأسمالية مهددة فعلاً.. بالانهيار؟! (1)

 ارتبط تاريخ الرأسمالية بالأزمات الاقتصادية، وكانت بعض الأزمات تحمل طابعاً دورياً، في حين كان بعضها الآخر ذا أبعاد عميقة تتعلق بطبيعة النظام الرأسمالي نفسه وبنيته.. مما يطرح على أرباب النظام ومفكريه مسالة مستقبل الرأسمالية وما إذا كان هذا النظام مهدداً بالانهيار!

والمتتبع لتاريخ الرأسمالية يجد أن هناك علاقة جدلية بين تطور النظام الرأسمالي وأزماته وتاريخ الفكر الاقتصادي.. فقد ارتبطت نشأة النظام الرأسمالي بقيام النهضة والتنوير في أوربا، حيث انطلقت عملية التحديث الكبرى وانتقال المجتمع الأوربي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي في ظل الثورة الصناعية في أكبر تحول في تاريخ البشرية، ذلك التحول الذي أدى إلى قيام حضارة القرن التاسع عشر على أساس أربعة نظم، كما يقرر بولاني في كتابه الهام (التحويل العظيم) (1):

النظام الأول: ضمان التوازن في القوة، وهذا ما منع لمدة قرن كامل وقوع أية حرب طويلة ومدمرة بين القوى الكبرى.

النظام الثاني: هو قاعدة الذهب الدولية كأساس للتعامل.

النظام الثالث: هو السوق الذاتي التنظيم.

النظام الرابع: هو الدولة الليبرالية.

وإذا كان التوازن في القوة قد حال دون وقوع حرب مدمرة بين القوى الكبرى، فإن طبيعة النظام الرأسمالي التي تعتبر الحروب أحد مقوماتها، قد استعاض عن الحروب العالمية الكبرى، بحروب إقليمية لا ينفك هذا النظام عن إشعالها لضمان استمرار عجلة الإنتاج العسكري واستمرار تدفق قيمة الأسلحة لخزائن أرباب النظام بما يضمن أيضاً استمرار الأعمال المالية والمصرفية واستمرار دورة الرأسمال لصالح أرباب النظام الرأسمالي.

وإذا كانت قاعدة الذهب الدولية كأساس للتعامل قد انتهت بالقرار التاريخي الذي أصدره الرئيس الأمريكي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، فإن قواعد ترسيخ (دولرة) الاقتصاد العالمي جعلت من الدولار يقف على رأس نظام نقدي عالمي في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي ومصالح المؤسسات المالية الدولية التي أصبح لها (ولأمثالها من منظمات وشركات متعدية الجنسية)، الكلمة الفصل في مسيرة الاقتصاد العالمي.

يبقى إذاً، السوق ذاتي التنظيم، والدولة الليبرالية كعاملين محركين لمسيرة قاطرة الحداثة والحضارة المعاصرة، ويقف خلف السوق والدولة الليبرالية، نظرية اقتصادية- اجتماعية- ثقافية، تتمحور حول اقتصاد السوق والديمقراطية وحقوق الإنسان.

واقتصاد السوق لا يعدو أن يكون تنظيماً اجتماعياً لضبط سلوك الأفراد في مجال الإنتاج وإشباع الحاجات، حيث تتكامل المصالح الخاصة والدوافع الشخصية بتحقيق (الصالح العام). ويعتقد أنصار اقتصاد السوق أن الفرد بسعيه إلى تحقيق أقصى إشباع ممكن تقوم (اليد الخفية) بتوفيق مصلحته الخاصة مع المصلحة العامة.

ومع نضوج النظام الرأسمالي، تبدّى على نحو واضح مدى الظلم والاستغلال الذي ولد البطالة والفقر في أرجاء أوربا، ثم تمثّل ذلك كله في نهب ثروات البلدان التي خضعت لاستعمار جيوش أوربا، فقد بدت عيوب النظام الرأسمالي تتوضح داخلياً في المجتمعات التي نشأ فيها، كما توضح الآثار الكارثية لاستعمار بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. فكان أن جاءت (الماركسية) لتظهر تناقضات هذا النظام التي تنذر بانهياره. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتزيد من جشع النظام الرأسمالي وتوحش الرأسماليين، فوقعت أزمة الكساد العظيم (1929) في الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى جميع أنحاء العالم، فكانت إنذاراً قوياً للنظام الذي تكاتفت جهود المسؤولين الحكوميين والمنظرين الاقتصاديين من أجل إيجاد مخرج من الأزمة العاصفة، فكان الرد من حكومة الولايات المتحدة ببرنامج (النيو ديل) (2) ومن (كينز) الذي جاء بنظريته العامة ليفسر التوازن والاختلال في الاقتصاد، فبين أن التوازن يمكن أن يستقر عند مستويات متعددة من التشغيل، وأنه قد يستقر دون العمالة الكاملة، وأعطى كينز وصفاً للسياسة الاقتصادية لمواجهة البطالة عن طريق تدخل الدولة، معارضاً بذلك أنصار النظرية التقليدية الذين يدافعون عن الحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة.

وهكذا يمكن النظر إلى كينز كمعارض للنظام الرأسمالي ونظريات عدم التدخل، لكنه من ناحية أخرى كان يمثل المدافع الحقيقي عن هذا النظام بإعطائه وسائل مقاومة الأزمة وتجاوزها، مما يعطي الرأسمالية دفعة جديدة مكنتها من تجاوز الأزمة.

وقد وجدت نظرية كينز تطبيقاً واسعاً لها بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في دول أوربا الغربية، بإقامة ما يدعى بالدولة التدخلية (دولة الرفاه والازدهار) لمواجهة مسألة إعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار، والوقوف في وجه النموذج السوفييتي، ولمراعاة ضغط نقابات العمال والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية.

وأسهمت الولايات المتحدة في نجاح هذا المشروع (عن طريق مشروع مارشال)، كما ساعد في نجاحه الاعتماد على الطاقة الرخيصة (وأهم مصادرها النفط العربي)، فأمكن بذلك للنظام الرأسمالي تحقيق ما يدعى بالتسوية التاريخية بين الرأسمال والعمل والدولة، وأنجز النظام الجديد الازدهار لشعوب أوربا الغربية على مدى سنوات امتدت حتى نشوب الأزمة من جديد في مطلع سبعينيات القرن الماضي، تحت عنوان (الركود التضخمي) ومؤداه تراجع النمو الاقتصادي مع تزايد معدلات التضخم.

وأمام عجز الكينزية عن تقديم الحلول للأزمة، انبرى الاقتصاديون الليبراليون الجدد إلى تقديم حلولهم من خلال تحميل الدولة وتدخلها في الشأن الاقتصادي مسؤولية الأزمة، وقالوا إن الحل هو في تراجع الدولة إلى حدود وظائفها التقليدية، وترك الأفراد والمؤسسات الخاصة تعمل بحرية (تكاد تكون كاملة) ونادوا بحكومة الحد الأدنى، أو بالحكومة الصغيرة، والتخلي عن القطاع العام وحرية التجار الخارجية وحرية السوق الداخلي وعدم التدخل في الأسعار.

وإذ تبنّت (تاتشر) وحزب المحافظين في بريطانيا هذه الدعوة، واستطاعت الوصول إلى رئاسة الحكومة البريطانية (1979) فإن ريغان بالمقابل وصل إلى الرئاسة الأمريكية (1980) تحت ظل شعارات المحافظين الجدد ورفع شعار اقتصاد السوق المنفلت من أية ضوابط، ووضعت بعد ذلك سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة كنهج اقتصادي يقدم إلى جانب الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن مشروعات يُراد منها تعزيز هيمنة الولايات المتحدة على مقدرات العالم، وصدّرت هذه المشروعات إلى بلداننا باسم (الشرق الأوسط الجديد) الذي أصبح كبيراً بعد ذلك، والشراكة الأوربية، واتفاقات الشراكة وحرية التجارة كوسيلة عملية لإلحاق بلداننا بالاقتصاد العالمي وإدراجها ضمن مقتضيات العولمة، مستخدمة في ذلك المؤسسات والمنظمات الدولية (3) والمصارف الكبرى والشركات متعددة الجنسية.

هذه المشروعات لكي تنجح كان عليها إضعاف الدول والشعوب، وبالتالي جعلها أسهل في قيادتها نحو القبول بمشروع الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وأكثر قابلية للانضواء تحت هيمنة الولايات المتحدة، وهكذا كان عليها أولاً إزالة النظام الاشتراكي السوفييتي الذي كان نموذجاً يقتدى به للشعوب المغلوبة على أمرها، فولدت في المجتمعات السوفييتية نزعة معاداة النظام، مستغلة في ذلك انتشار الفساد وحالة الارتخاء والجمود العقائدي التي سادت الاقتصاد والمجتمع السوفييتي، وما نجم عن ذلك كله من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية تحت وطأة سباق التسلح وتزايد الأعباء والنفقات الناجمة عنه، فكان انهيار الاتحاد السوفييتي وتفتته إلى جانب مجموعة من الأحداث الدراماتيكية كـ(يوغسلافيا وانهيار جدار برلين وتوحيد الألمانيتين وغزو العراق للكويت) إيذاناً بمرحلة جديدة من العولمة، وإعلاء شأن الرأسمالية والاقتصاد الليبرالي الجديد.

وبعد أن وصلت الولايات المتحدة (وهي زعيمة النظام الرأسمالي) إلى ما أرادته، واعتلت قمة الهرم في النظام العالمي كقطب وحيد، أصيبت بعمى الألوان، وغابت عنها الحقائق، فتمادت في سياساتها الليبرالية الجديدة، داخل مجتمعاتها وتمادت أيضاً في سياسات إلحاق دول العالم وشعوبه بدورة الرأسمال العالمي، مع ما رافق ذلك من سياسات متوحشة أوصلت 1% من سكان الولايات المتحدة إلى السيطرة على مقدرات السياسة والاقتصاد وفرض جدول أعمال مغاير على شعوب العالم ودوله.

*********

هوامش

(1)-كارل بولاني، أستاذ التاريخ الاقتصادي في إنكلترا والولايات المتحدة، كتابه (التحول العظيم) صدر عام ،1942 ترجمته المنظمة العربية للترجمة في بيروت، ونشر عام ،2009 وكان قد بدأ تأليفه في ثلاثينيات القرن الماضي وأنهاه في الأربعينيات.

(2)- إجراءات حكومية تؤدي إلى تشغيل ملايين العمال، إلى جانب سياسات مالية تركز على تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي.

(3) – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ثم انضمت منظمة التجارة العالمية.

العدد 1102 - 03/4/2024