جورج أورويل ورواية الخيال العلمي ذات المغزى السياسي

صدرت رواية جورج أورويل التي تحمل عنوان (1984) سنة 1949 وهي أخطر رواية سياسية في القرن العشرين، وعام 1984 هو العام الذي كان موضوع التوقعات التي وردت في هذه الرواية، في عالم يتصف بالذاتية والفردية تبدو التوقعات مخيبة للآمال.

تصوِّر الرواية دولة خيالية هي دولة (أوشانيا العظمى) التي يديرها أربع وزارات هي: وزارة الصدق، ومهمتها تزييف الحقائق والقضاء على الوثائق التي تذكّر الناس بالماضي، ووزارة السلام، وتتولى شؤون الحرب والإعداد لها، ووزارة الوفرة والرخاء وتتولى مهمة تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد. وأكثر الوزارات نشراً لرعب في قلوب المواطنين هي وزارة الحب، التي تعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين، أما شعارات الدولة الثلاثة المنتشرة في كل مكان فهي: الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل قوة.

– ترجمت هذه الرواية إلى 62 لغة، فقرأها عشرات الملايين، وأحدثت ضجة في كل الأوساط الأدبية.

أصبح أورويل أكبر كاتب إنكليزي، في القرن العشرين، وهو الكاتب الأكثر شعبية في العالم الشيوعي، فبعد أن كان كاتباً هامشياً مغرماً بالفنتازيا السوداء. أصبح مؤلف (1984) هو التاريخ الذي يقرع القدر معلناً عن فضيحة كونية، ويحدد موعداً لمخرّبي التاريخ البشري.

رواية (1984) رواية بطلها (ونستون سميث) موظف بيروقراطي صغير في دولة (أوشانيا) أو أوقيانوسيا الدكتاتورية زمن حرب عالمية دائمة بين قوتين (أوراسيا) و(أستاسيا) وبين هاتين القوتين وبقية دول العالم، إذ تتغير حالات العداء والتحالفات باستمرار.

وبطل الرواية سميث يعمل في (وزارة الصدق)، إذ يعيد كتابة القصص الصحفية القديمة لتتلاءم مع أفكار الحزب الحاكم.

 وسميث وكل أعضاء الحزب تراقبهم شاشات تلفزيونية وملصقات في كل مكان تقول: (إن الأخ الأكبر يراقبك). وفجأة يرتكب سميث جريمة فكرية إذ يقول: (فليسقط الأخ الأكبر)، وسرعان ما ارتكب جريمة شائنة أخرى عندما وقع في حب جوليا، زميلة العمل في مكتبه. وعند ذلك قامت رابطة (معاداة الجنس بين الشباب) بالتنظير لفضيلة العزوبية، وإن النسل سيتم قريباً عن طريق زرع النطف. وإن ولاء الناس جميعاً سيتجه نحو الحزب.

قُبض على جوليا وسميث ونُقلا إلى وزارة الحب، حيث عُذّب سميث ببطء شديد وعانى من مخاوفه الشديدة من المحققين، ولكن عندما دفعوا في وجهه فأراً توسل إليهم أن يوقعوا هذا العقاب على جوليا بدلاً منه، فما زالت هذه الخيانة منه آخر أثر للاستقامة، وأصبح (عضواً جيداً في الحزب).

عُرف أريك بلير (المعروف أديباً بجورج أوريل) بعباراته الدقيقة الواضحة، رجلاً ينتمي إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة العالية المنخفضة!

عالية لأن أباه كان موظفاً في الإدارة الهندية ويتصرف بجدية كرجل جاد، ومنخفضة، لأنه لم يكن يمتلك أرضاً وكان يتمتع بدخل متواضع للغاية، فهو موظف في الجمارك.

لم يتفق مزاج أوريل مع قوانين المدرسة، كان يسارياً لا يميل إلى المجتمع، ولم يكن شخصاً عاماً، لم يحاول أن يلتحق بجامعة إكسفورد. واشترك في مسابقة من أجل وظيفة في الشرطة الإمبريالية في بيرماني. وكان يقوم بقتل الفيلة المختولة دون أي اقتناع، ويرتكب فيها الجنح وتنمو كراهيته للإمبريالية.

تصرف أورويل كمتشرد شبه متطوع في باريس ولندن، ومدرس في مدرسة خاصة، وأمين مكتبة، وصحفي بالقطعة، ومعلق في الحزب الشيوعي ا لبريطاني، وكانت كتبه تجد بصعوبة ناشراً لها، وبصعوبة أكثر قراء، ونقاداً مفضلين،  إلى أن جاءته الشهرة عام 1945 مع (مزرعة الحيوانات).

كان جورج أورويل فقيراً ليست له علاقات كبرى، وكان محباً للحيوانات مشغولاً بالأمور الطبيعية، وكان مواطناً صالحاً بسيط السلوك، خجولاً، حسبما يقول الشهود. في السياسة، كان يسارياً متطرفاً، يسارياً إلى أبعد الحدود، كان مدافعاً عن الفقراء، وضعته يساريته في موقف صعب، إذ وجد نفسه مطروداً بناء على تقرير من حزب العمل واتهم بأنه خان اليسار.

وهو يرى أن الظلم خطأ في بناء العالم، لم يكن أورويل ثورياً، بل قدم نموذجاً نقياً للمتمرد الذي يرفض أن يتصالح مع الظالمين الذين يحيطون به، ويتمرد لدرجة الاختناق ضد الظلم المطلق للثوري الذي ينكر أو يريد أن يلغي الاختلاف بين العدل والظلم.

كانت إنكلترا بلا شك أكثر حرية وأقل ديمقراطية، تمسك أوريل بالحرية، وربما كان يحب الديمقراطية بالسليقة، ففي إسبانيا قام بإشعال شعلة الحرية، وكان مشاركاً في الحرب الإسبانية، إذ كان لدى الكومنترن مشروع لتحويل إسبانيا إلى الديمقراطية الشعبية.

وقد تركت مغامرته هذه في إسبانيا عدة انطباعات مصيرية في شخصيته، يقول في ذلك: (لقد شاهدت معارك عظيمة أرسلت عنها تقارير، في أماكن لم يكن فيها قتال. وشاهدت الهدوء في أماكن قتل فيها المئات من الرجال. لقد شاهدت جنوداً لم يروا طلقة نارية واحدة. واستقبلوا كأبطال لانتصارات خيالية.

أشعر أحياناً أن التصور الذهني للحقيقة الموضوعية يتضاءل تدريجياً في هذا العالم).

أما رواية (مزرعة الحيوانات) فهي من الأعمال الكلاسيكية الهامة، تدور القصة في جو شجاع وموضوعي، وقد لامس النقد والهجاء قلب الهدف: إنها قصة روسيا.

وفي هذه المزرعة الهادئة، العادية، غير المنظمة، يبتكر خنزير أيديولوجيا منقذة (الحيوانية) من كل الآلام التي يسببها الإنسان. لنقتلع رجل المزرعة، إنه الحل السهل والعالمي لكل الحلول. أغريت الحيوانات، ينظمها الخنزير الصغير، فقاموا بثورة واصطادوا المزارعين في البداية، بدا الجميع سعداء، ويدعي الدستور أن أي حيوان لا يمكنه أن يقتل حيواناً آخر، وأن كل الحيوانات متساوية. وتعلم (لجنة إعادة التعليم) الناس القراءة وفهم الحيوانية التي تتلخص في الصياغة التالية: (حوافر أربعة= جيد، حافران= رديء). يحاول أصحاب المزرعة القدامى أن يقوموا بالغزو. لكنهم يُطردون. وأثناء ذلك لا يعمل الخنازير: يديرون ويراقبون عمل الآخرين. ثم يقومون ببناء طاحونة، يستبعد أحد الزعماء التاريخيين للثروة الخنزيرية، وتظهر شرطة الخنازير، في الوقت نفسه يقام ضريح للزعيم الأول المؤسس، يرغم العمال على البقاء. فعندما تحطم العاصفة الطاحونة، يُلقى على مذنبين وتصبح المزرعة قصراً للمحاكمات الكبرى. تعاد  كتابة تاريخ الثورة، تنتظم عبارة (أبو الحيوانات). وذات صباح يساق الحصان  العجوز المسكين الذي يحبه الجميع، والذي يعمل بجدية، دون أن يحاول أن يفهم إلى السلخانة. على الدستور أن يطبق إذ لا يمكن لأي حيوان أن يقتل حيواناً آخر بلا دافع، فكل الحيوانات متساوية. ولكن البعض يتمتع بمساواة أكثر من الآخر.

وفي الفصول الأخيرة من الرواية يشارك الخنازير (الذين يعيشون على الطريقة الإنسانية. ويسيرون على أقدامهم وينامون فوق أسرّة ويشربون الويسكي)، بينما تبدو حيوانات المزرعة مندهشة، تنظر إليهم دون أن تميز من هم البشر ومن هم الخنازير.

نلحظ السخرية المؤثرة في نقد التجربة السوفييتية وإعادة إظهار التاريخ لكل البلاد المرتبطة بها، منذ إنشاء الاشتراكية التي كتبت في الدستور الصيني الشعبي، الذي يقول إنه لا أحد يمكن أن يلقى القبض عليه دون أمر الشرطة.

وتقوم (مزرعة الحيوانات) على نقد التجربة اليسارية التي وضعها أتباع تروتسكي.

إن عبارة (الأخ الأكبر)، شرطة الفكر، وضياع المعالم بالسيطرة على المعلومات، وزيف التاريخ الأبدي وإلغاء الذاكرة، والدورات السياسية التي تقوم بتصفية الحساب مع الحكام القدامى، كل ذلك يمكن أن نلمسه في رواية (مزرعة الحيوانات) وفي رواية (1984).

ومن أعمال أورويل (داخل وخارج باريس ولندن) و(الطريق إلى ويغان بير)، وكتب قصتين عظيمتين، الأولى بعنوان (شنق) يسرد فيها قصة تنفيذ حكم الإعدام بأحد الهنود وردّ فعله على هذا الحدث، أما القصة الثانية فهي (إطلاق النار على فيل).

ولم يكن أورويل في أعماله يفرض نظريات سياسية، فقوته تكمن في سرد المشاكللا في اقتراح الحلول.

وان إنجاز أورويل العظيم هو تذكير الناس باستمرار أن عليهم أن يفكروا دائماً بأنفسهم وقد علق أهمية كبيرة على المثاليات أكثر من الأيديولوجيات، وإيمانه بقدرة الجنس البشري المتصارع وجدارته بإصلاح عجزه بوساطة أكثر المناهج تطرفاً للتفكير.

العدد 1105 - 01/5/2024