5 مليارات دولار أمريكي كلفة العدوان الصهيوني على لبنان
د. أحمد ديركي:
عزيزي القارئ.. قبل البدء بقراءة هذا المقال، لا بد من التنبيه إلى بعض النقاط، كي لا يكون هناك نوع من اللغط:
أولاً- الأرقام الواردة فيه هي مجرّد تقديرات أولية.
ثانياً- أوّليتها لا يعني أنها غير دقيقة، بل هي أقرب إلى الدقّة. ثالثاً- هي أرقام في تزايد مستمر مع مرور كل ساعة، وليس كل يوم. رابعاً- تزايدها، حتى خلال الوقت الذي تقرأ فيه هذا المقال يعود إلى أن الكيان الصهيوني مستمر في عدوانه على لبنان.
خامساً- استمرارية عدوانه تعني ارتفاعاً مستمرّاً في الأرقام الواردة في المقال.
لذا فهي أرقام أولية، دقيقة إلى لحظة نشرها فقط، وهي دائماً في تزايُد.
أصدر البنك الدولي بتاريخ 14 تشرين الثاني 2024 تقريراً حول كلفة العدوان الصهيوني على لبنان، مقدّراً الكلفة الإجمالية لهذا العدوان بنحو 8.5 مليارات دولار أمريكي. فالكيان الصهيوني يمعن في تدميره من خلال تفوّقه عسكرياً، وبالتحديد القوة الجوية التي يمتلكها، معتقداً في تكتيكه العسكري، الذي ما هو إلا مجرد ترجمة لمخططاته السياسية الاستعمارية التوسيعه، أنه كلما قتل أكثر، وبخاصة الأبرياء، ودمّر أكثر من خلال قصفه الجوي، يستطيع أن يحقّق أهدافه السياسية الاستعمارية التوسعية. ولم يتعلم الدرس منذ 1982، خلال اجتياحه بيروت، بعد أن قصفها براً وبحراً وجواً، بدعم عربي وإقليمي ودولي، بأنه ما إن دخلها براً حتى كانت له جبهة المقاومة الوطنية (جمول) بالمرصاد، ودحرته من دون قيد أو شرط أو قرارات دولية برعاية (الأمم المتحدة)، الداعمة لأفعال الكيان، وإن لم تكن داعمة مباشرة فهي متواطئة معه وتغضّ النظر عن جرائمه، حتى الشريط الحدودي. وها هو ذا الكيان الصهيوني اليوم يكرّر فعلته، يقصف جواً، وبراً وبحراً بوحشية البهائم البرية، لأن هذه هي لغته ولغة كل داعم مباشر أو غير مباشر له. ولم يفلح حتى تاريخه في التمركز على الأرض في المناطق اللبنانية التي وصل إليها. جيش صهيوني يدعمه العالم برمته، بالأسلحة والأموال والمعلومات الاستخباراتية والتغطية السياسية والخيانات العلنية وغير العلنية…إلخ، ليحتلّ غزة، ويقضي على كل أشكال المقاومة الفلسطينية، ويجبر المقاومة اللبنانية على الانسحاب إلى نهر الليطاني، لتكون من الليطاني حتى حدود فلسطين منطقة عازلة منزوعة السلاح، حفاظاً على (أمنه) وخططه التوسعية. وفي فلسطين، يعلن بلا مواربة أنّه بعد الانتهاء من غزة سوف يضم الضفة الغربية.
الجميع يدعمه وتبقى المقاومة الفلسطينية واللبنانية تقف حجر عثرة في تنفيذ مشروعه، كما وقفت جمول عام 1982 حجر عثرة في تنفيذ مشروعه آنذاك، مع بعض الاختلافات الجوهرية بين مقاومة جمول ومقاومة القوى الإسلامية اليوم، لكن بما أن العدو واحد فالمقاومة واحدة.
لتحقيق مشروعه، وتحديداً في لبنان، يستخدم جيش الكيان الصهيوني الأسلحة المحرمة دولياً، إضافة إلى كلّ أنواع القصف، البري والبحري والجوي، ولكن فيما يتعلق بقصف في بيروت، وتحديداً الضاحية، ومنطقة البقاع، فمعظمها جوّيّ، مستخدماً المسيّرات للمراقبة والقصف (الخفيف) والطائرات الحربية، من (أف 16) وصولاً إلى (أف 35) للقصف العنيف لتدمير مبان سكنية يقطنها مدنيون عزل. وقبل القصف يرسل إنذارات للمباني التي سوف يقصفها.
يا له من فعل أخلاقي! كلا ليس بفعل أخلاقي، بل فعل إجرامي من الدرجة الأولى، يظهر مدى الدعم الذي يتلقّاه من دول العالم كافةً، ومدى تجذّر خيانة الكثير من الأنظمة العربية. فالإنذار الذي يرسله يجبر كل ساكني المنطقة على الإخلاء والانتقال إلى منطقة أكثر أمناً. مع توفر الأجهزة الخلوية، تقريباً كل من السكان يحمل هاتفاً خلوياً، وهنا العدو من خلال التقنيات والمعلومات الاستخباراتية المزود بها، يستطيع رصد حركة كل هاتف خلوي، لمعرفة مَن أخلى ومن لم يُخلِ! كما يستطيع رصد حركة السيارات، بكل أوصافها وأرقام لوحاتها، ليتعرف على أصحابها. أي من خلال الإنذار المرسل من قبل العدو يحصل العدو على كثير من المعلومات الاستخباراتية التي تنقصه، من دون إغفال دور الخونة الداخليين. طبعاً عند قيامه باغتيال رموز مقاومة لا يرسل إنذارات قبل الاغتيال!
من بعد حصوله على كل هذه المعلومات يقوم بالقصف الهمجي التدميري. والوضع في الجنوب مشابهٌ تقريباً للوضع في البقاع وبيروت، مع وجود بعض الاختلافات فالإنذارات قليلة. والقصف على الجنوب برّي وجوّي، وفي بعض الأحيان بحري، ومحاولات التقدم براً ليحتل أكبر مساحة ممكنة. حتى الآن يفشل جيش العدو بفعل هذا. لذا يعمل على استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، والقصف بأسلحة (محللة) دولياً، وفي كثير من الأحيان القصف مستمر لمدة تزيد عن أربعة أيام. ففي إحدى غاراته العنيفة على الجنوب، ألقى جيش العدو ما يقارب 180 طنّاً من المواد المتفجرة على إحدى مناطق الجنوب، كمية اهتزت الأرض لها حتى سجلتها مراكز رصد الزلازل في العالم على أنها زلزال! كما يفجر كل منطقة في الجنوب عندما يستطيع التوغل براً وينسحب منها عندما يقع في كمائن المقاومة.
أي أن جيش الكيان الصهيوني يدمر بشكل ممنهج كل ما يستطيع تدميره، ويقتل كل من يستطيع قتله، ويغتال كل من يستطيع اغتياله من دون أي رادع، لا محلي، ولا عربي، ولا إقليمي، ولا دولي. الرادع الوحيد لأفعاله هو المقاومة!
الكلفة الاقتصادية لهمجية عدوانه على لبنان التي بلغت 8.5 مليارات دولار أمريكي، حتى تاريخ 14 تشرين الثاني 2024، هي الكلفة المادية فقط، لا البشرية، كلفة عدوانه على الاقتصاد اللبناني، المنهار أصلاً بسبب سياسة سلطته الطائفية التحاصصية، التي سرقت، نعم، سرقت، وما من تعبير آخر عما جرى، بالتعاون مع القطاع المصرفي أموال مودعي المصارف.
وقد خلص تقرير البنك الدولي إلى أن التقييم الأولي للأضرار والخسائر المادية في لبنان وحدها بلغت 3.4 مليارات دولار أمريكي، وأن الخسائر الاقتصادية بلغت 5.1 مليارات دولار أمريكي.
بعض التفاصيل لهذه الأضرار والخسائر أتت على النحو التالي:
النمو الاقتصادي: تشير التقديرات إلى أن عدوان الكيان الصهيوني على لبنان أدى إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة 6.6٪ على الأقل في عام 2024، مما يفاقم الانكماش الاقتصادي الحاد المستمر على مدى خمس سنوات والذي تجاوز 34% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
أثر العدوان الصهيوني على الشعب في لبنان: تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 875 ألف نازح داخلياً، مع تعرض النساء والأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين لأشد المخاطر. كما تشير التقديرات إلى فقدان نحو 166 ألف فرد لوظائفهم، وهو ما يعادل انخفاضاً في المداخيل قدره 168 مليون دولار أمريكي.
قطاع الإسكان: هو الأكثر تضرراً، فقد تضرر نحو 100 ألف وحدة سكنية جزئياً أو كلياً، وبلغت الأضرار والخسائر في هذا القطاع 3.2 مليارات دولار. وبلغت الاضطرابات في قطاع التجارة نحو ملياري دولار أمريكي، مدفوعة جزئياً بنزوح الموظفين وأصحاب الأعمال. وأدى تدمير المحاصيل والماشية وتشريد المزارعين إلى خسائر وأضرار في قطاع الزراعة بلغت حوالي 1.2 مليار دولار أمريكي.
ويختم التقرير بالقول: (وسيجري إعداد تقييم سريع شامل للأضرار والاحتياجات (RDNA) لتحديد الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الاحتياجات التمويلية للتعافي وإعادة الإعمار، حينما يسمح الوضع بذلك. ومن المتوقع أن تكون تكلفة الأضرار والخسائر والاحتياجات التي سوف تُقدر من خلال التقييم الشامل أعلى بكثير من التكلفة المقدرة بموجب التقييم الأولي هذا). ها هي ذي الكلفة الأولية للعدوان الصهيوني على الاقتصاد اللبناني، كلفة بارتفاع مستمر مع كل ساعة لاستمرار العدو في عدوانه.
لكن هناك أمر يندر ذكره، لا من قريب ولا من بعيد، فيما يتعلق بتكلفة العدوان الصهيوني على لبنان. تصدر تقارير أولية حول تكلفة الحرب، وعند انتهائها تصدر تقارير أخرى، من أكثر من جهة، تقدر الكلفة بشكل أدق. بعد انتهاء العدوان تتناطح بعض الدول، وبخاصة العربية، وبالتحديد الخليجية، لعقد المؤتمرات لمساعدة إعمار لبنان. وهنا سموه وحضرته ومعاليه وفخامته، وقدّس الله سرّه… كل منهم يتبرع بهذا المبلغ أو ذاك لإعادة الإعمار. وتضج وسائل الإعلام بهذه المؤتمرات (المانحة) السخية من قبل سموه، ومعاليه، وفخامته، وقدّس الله سرّه… وتبدأ عملية إعادة الإعمار ويعاود الاقتصاد اللبناني نوعاً من نشاطه، ويعاود الناس ممارسة حياتهم الطبيعية تدريجياً، وتنهب السلطة اللبنانية ما تنهبه من أموال إعادة الإعمار، كما نهبت أموال مودعي المصارف بالشراكة مع المصارف، وتقوم بحماية المصارف لأنها شريكتها في نهب أموال المودعين، وينتهي الأمر عند هذا الحد. طبعاً لن ندخل هنا في التوجهات السياسية التي انتهت إليها الحرب، لسببين: الأول لأنها ما زالت مستمرة، والثاني ليس هذا موضوعنا حالياً، مع أنه يمكن تلمّسها.
أمّا بالنسبة لإعادة الإعمار فهي تبدو تكراراً لمسلسل إعادة الإعمار بعد العدوان الصهيوني على لبنان في عام 2006.
الأمر الذي يندر ذكره في مسلسل إعادة الإعمار، أنه يخفي أمراً جوهرياً، يصل إلى مستوى الخيانة ودعم الكيان الصهيوني لتكرار فعلته. الكيان الصهيوني هو المعتدي على لبنان، ويحتل جزءاً من أرضه. ومقاومة الاحتلال حق يكفله القانون الدولي، وإذ أردنا اسقاط القانون الدولي، فإن مقاومة الاحتلال حق كل من يقع تحت الاحتلال في كل شرائع الإنسان منذ أن شكل حضاراته الأولى، لتصبح مقاومة الاحتلال وصد الاعتداء حقاً طبيعياً من حقوق الإنسان. وفي التقاليد القبلية والعشائرية، ما قبل تشكل الدولة، إذا قتل فرد فرداً آخر من عشيرة أخرى، أو حتى من عشيرته، عندما يدفع القاتل دية (فدية) المقتول تُبرّأ ذمة القاتل من الفعل، ولا يؤخذ بالثأر.
وما دام الكيان الصهيوني هو المحتل والمعتدي، فعليه أن يدفع تكاليف إعادة إعمار ما تسبّب به من دمار! لا أن يُعفى من كل هذه التكاليف ويقوم سموه، ومعاليه، وفخامته، وقدس الله سره… بدفع كل تكاليف ما تسبب به المعتدي. فهذه العملية دفع تكاليف ما تسبب به المعتدي من دمار تُعتبر تبرئة ذمة المعتدي من الاعتداء! فعلى سبيل المثال الكيان الصهيوني ما زال يتلقى تعويضات من ألمانيا على ما قام به هتلر تجاههم، بينما نحن نعفيه من كل الالتزمات تجاهنا، ونقوم نحن بالطفع عوضاً عن تغريمه بالدفع! أليست هذه خيانة من قبل المتبرعين السخيين، سواء كانوا عرباً أو غير عرب، لتبرئة الكيان الصهيوني من اعتداءاته على لبنان بطريقة مخفية! لذا علينا أن ننطلق من هنا لا نريد من أحد أن يدفع أي مبلغ لإعادة الإعمار، ونلزم الكيان الصهيوني بدفع كافة تكاليف اعتداءاته علينا. فعل هذا الامر فعل مقاوم للكيان وتثبيت سيادة الدولة المعتدى عليها.
لكن يبقى السؤال مطروحاً: من سيقوم بهذا، لبنان المنقسم على ذاته بين مؤيد للعدوان ومقاوم له، أم الدول العربية المطبعة مع الكيان أو تلك الطامحة للتطبيع حين تتوفر الشروط، أم الدول الغربية المؤيدة للكيان، أو الولايات المتحدة صاحبة الفيتو ضد أي قرار يمكن أن يمس الكيان؟ الإجابة لا أحد ممن ذكر لأنهم جميعاً مؤيدون لأفعال الكيان، وما إعادة إعمار ما تسبب به الاعتداء الصهيوني على لبنان من قبل سموه ومعاليه وفخامته وقدس الله سر إلا دليل آخر على مستوى الدعم الذي يتلقاه هذا الكيان!