مناظرة حول مسألة القومية
يونس صالح:
ما الذي حدث في عام 1989؟ هناك روايتان على قدر شديد من التعارض يمكن استعراضهما للحديث عن مدلولات عام 1989 فيما يتعلق بمشكلة القومية والكوزموبوليتانية، وما يختاره المرء من موقف إزاء هاتين الروايتين المتعارضتين سيحدّد موقفه من واحدة من أصعب وأعمق القضايا المعيارية التي يمكن لأي عالم متخصّص في النظريات السياسية أن يتناولها.
الرواية الأولى التي سأشير إليها برواية هوبسبوم تطرح الموضوع على النحو التالي: بعد عام 1989م، وبسبب ذلك الشعور العام بالضياع الاجتماعي والتصدع، في أعقاب صدمة انهيار الأنظمة شديدة المركزية والدولانية (أي تركيز السلطة الاقتصادية في يد الدولة)، تبنّت مجتمعات أوربية شرقية عدة أشكال مغالية من القومية، أدت بدورها إلى تشظّي الدول التي كانت تحتوي على قوميات متعددة، فنجم عن ذلك تكوّن عدد ضخم من الدول الصغيرة ومتناهية الصغر على أرضية قومية. إن هذا التكون الجديد عبّر بشكل واضح عن حالة مرَضية، والأمل معقود على أنه عندما يتسنّى الوقت لهذه المجتمعات لكي تتكيف مع ظروفها الجديدة، أي ظروف ما بعد الحرب الباردة، فإن وطأة الحمّى القومية سوف تخف، وسيكون بمقدورها أن تتخلص من حالة التزمّت القومي غير الواعي لإعطاء مدلول واتجاه أفضل للحياة في هذا العالم الاجتماعي الجديد (عالم ما بعد الصدمة).
الرواية الثانية التي سوف أطلق عليها اسم رواة نيرن، وهي بشكل تقريبي كما يلي: ليس هناك ما هو مرَضيّ بشأن ازدهار الدول ذات السيادة الجديدة القائمة على الهوية القومية في أعقاب 1989، وما هو مرَضي بحقّ هو قهر الكيانات متعددة القومية للهويات القومية. إن إنشاء الدول يتيح مجالاً للإبداع السياسي الذي ينبغي أن نرحّب به.. إنه أمر ينبغي الاحتفاء به حتماً من قبل اليساريين ممن يؤيدون الحرية والمساواة.
فأين يكمن الخلل إذاً؟ هل هو في الانشغال بمسألة التوحد القومي باعتباره رابطة ضرورية من روابط المواطنة التي لها أهميتها ومدلولاتها؟ أم في تعدد القوميات باعتباره مبدأ راسخاً من مبادئ المواطنة المتعدية القومية؟
إن البحث العميق في السجل الفلسفي وليس التاريخي أو الاجتماعي فحسب أمرٌ مطلوب كي تتحقق معالجة قضية بهذا القدر من الاتساع والأهمية، وهناك العديد من الأسباب الوجيهة التي تدعونا لطرح مثل هذه الأسئلة في سياق المواجهة الفكرية بين توم نيرن، وأيريك هوبسبوم، أولها أن كليهما منظّران اجتماعيان على قدر كبير من القوة وثقابة الفكر، والأمر الثاني هو أنهما معروفان كمشاركين في حوار واع كانت بدايته قبل عام 1989، ولا يزال مستمراً، وهذا يعني أن حوارهما ليس مقصوراً على ما أسفرت عنه نهاية الحرب الباردة، وإنما يعالج أموراً أساسية تعد الأهم من الناحية النظرية قبل عام 1989 وبعدها، والأمر الثالث أن كلا المفكرين ماركسيان ولديهما رغبةٌ قوية في أن يربطا موقفيهما بشأن القومية بالتراث الفكري الماركسي، وكلاهما يدركان أن هذا التراث إنما هو التاريخ المتعلق بردود الفعل الماركسية تجاه المسألة القومية.. وهذا يجعلنا نستنتج أن المنظّرين الاجتماعيين يمكنهما أن ينطلقا من التراث السياسي الفكري العام نفسه، ومع ذلك يتوصلان إلى استنتاجات على قدر شديد من التباين فيما يتعلق بمشروعية القومية.
لنبدأ برواية نرن عن عام 1989، فطبقاً لما يقوله، فضح عام 1989 زيف الخرافة القديمة التي آمن بها الماركسيون والليبراليون، والتي تقول إن الفروق القومية سوف تستسلم لـ(أممية) الاقتصاد العالمي الحديث، وإن واقع الحضارة الحضارة الحديثة الصناعية الكوزموبوليتانية سوف يدفع بأهل الثقافات للاقتناع الكامل بأنه سيتعيّن عليهم التخلي عن (إقليمية العصور الوسطى)- العبارة للينين- لكي يفوزوا بتحرّرهم الإنساني، بيد أن ذلك لم يتحقق.. وما جرى ويجري حتى الآن هو تعزيز الولاءات القومية، الأمر الذي يجعل المرء يعتقد أن قوّة القومية المعاصرة ليست مجرد حدث طارئ لا يمكن فهمه، ولكنها ترتبط ارتباطاً إيجابياً، وبشكل لا يمكن التخلص منه، باتجاهات عالمنا الاقتصادي التي يفترض أنها تفضي إلى العولمة، ويسمّي نيرن حقيقة الاقتصاد الكوني والثقافة الجماهيرية الحمقاء المصاحبة لها بـ(النزعة ما بين الأممية) (أي الرأسمالية الحالية المتعددة القوميات).. غير أن النزعة ما بين الأممية لا تقمع الثقافات القومية، بل على العكس من ذلك، إذ تقوم النزعة ما بين الأممية بإحياء الثقافات المحلية القومية، لتدفعها إلى تسييس هويتها الثقافية من خلال الصراع على السيادة الوطنية، وهذا يؤدي إلى ظهور (النزعة الأممية) باعتبارها عقيدة سائدة بين المفكرين الذين لا يتحملون رؤية السياسة القومية الحديثة، والتي تمجد الخصوصية المحلية. إن النزعة ما بين الأممية حسب رأيه تثير وتستفز النزعة القومية باعتبارها ردَّ فعلٍ دفاعياً، وهو ما يثير النزعة الأممية باعتبارها سياسة مضادّة للنزعة القومية.. والنزعات الثلاث جميعاً تنتمي للبيئة السوسيولوجية نفسها، أي عالم التصنيع والتحول التكنولوجي الحديث الذي يشمل كوكب الأرض كله. وحسب رأيه بالتالي، فإن الأممية أو (العالمية) هي عنصر أساسي من عناصر عالم النزعة القومية نفسه.. فالقومية والعالمية هما التوءم لعملية دولية تاريخية واحدة.. فما هو ردّ هوبسبوم على نيرن، وعلى الخوف الذي لا مبرر له من الخصوصيات المشروعة؟
تشمل حجج هوبسبوم ضد الانفصالية القومية الجديدة ما يلي:
* بما أن سائر الأمور متساوية، فإن الدول الصغرى أكثر ضعفاً من الدول الكبرى في مواجهة معطيات انتقال رأس المال الذي تمتلكه الدول متعدية القومية.
* على وجه التحديد، يقتصر الخيال الأخلاقي للمنادين بالحركة القومية على شؤون أمتهم فقط، فالمسألة القومية لها الأسبقية على الأهداف الأخلاقية السياسية المتعدية للقومية، مثل الاهتمام بالعدالة الاجتماعية عبر العالم.
* يمنع الوهم القومي من مجابهة المشكلة الحقيقية للمجتمعات الحديثة، وهي (كيفية تنظيم التعايش الفعلي في حال نجاح الحركة العرقية والعنصرية واللغوية وغيرها من الجماعات المختلفة).
* يبدو أن مبدأ نيرن يكمن في أنه كلما زاد عدد الدول القومية، كان ذلك أفضل، ولكن هل هذا مبدأ سياسي متماسك؟ إن هوبسبوم لا يعتقد ذلك.. فهو يرى أن الدول بداية ليست حقيقية، إنها اختراع من الدول الحقيقية أو الحركات القومية التي تطمح إلى تكوين دول.
والنتيجة هي أن القومية موضوع من موضوعات التأمل الفلسفي المعياري، وليس السوسيولوجي فحسب، وبالتالي ينتج عن هذا أن محصلة مناظرة نيرن – هوبسبوم لا تكمن فعلاً في أنّ كِلا هذين المنظرين فهما الأمر من الناحية السوسيولوجية فهماً صحيحاً، ولكن الرأي الأكثر أهمية هو- أيٌّ من الرؤيتين المعياريتين المتعارضتين- يمكن الدفاع عنها أكثر من الأخرى؟