بركة البيت وحكمته
وعد حسون نصر:
المُسنّون وجودهم بركة، خبراتهم في الحياة مدرسة، حكمتهم وعقلهم الراجح دروس نقتدي بها لنتجاوز عقبات الحياة وصعوباتها. فالمُسنّ هو الشخص الذي عاش مراحل عمره كاملة، واجهته الكثير من المشكلات والصعوبات التي تجاوزها. فهو من عمل على تربية أجيال، وأعطى من خبراته الكثير إلى أن وصل لهذه المرحلة المتقدمة من العمر. لذلك، يجب أن ينعم في هذه المرحلة بالراحة والهدوء والمكوث مع سنواته المتبقية بسلام يؤهّله الاتجاه لمرحلة جديدة كالقراءة وتدوين مذكراته وشرب قهوته على أنغام موسيقا تستهويه وتبعث في نفسه الطمأنينة والسلام الداخلي. يحتاج المُسنّ في هذا العمر للأصدقاء للتحدّث عن ذكريات، عن هفوات وضحكات وطرفات تُعيد له بهجة الروح وتشعره بلذة الزمن الجميل في ريعان الشباب. لكن للأسف، المُسن في بلادي تنتهي حياته وهو على رأس عمله مُنهك القوى، مهزومة أحلامه، فنجان قهوته يحتسيه وهو يسابق عجلة الحياة ويفكّر بتكاليف حبّة الدواء ودراسة الأولاد وشقاء الزوجة ومونة البيت. تجمعه بأصحابه أحاديث عن الهمّ وألم فراق الأولاد، فتغزو الحرقة قلبه وهو يتحدث مع أقرانه عن وجع الحنين، عن شوقه لحضن المسافر، لرائحة ثيابه، لخلافات بسيطة في يوم راحة. ضحكة حزن ترتسم فوق الشفاه ترافق حديثه عن ولده حين كان ينام لما بعد الظهيرة ويسهر على التلفاز والجوال، متمنّياً أن يعود ويسهر وينام ويزعجه بصوت الجوال وصوت الفيديوهات، المهم أن يعود ويُكحّل عيونه بمرآه قبل أن يخطف الموت روحه.. حديث المُسنّين الموجع عن شقاء الأبناء زاد شقاءهم شقاءً!
المُسنُّ في بلدي إذا ترك عمله لا يستطيع أن يؤمّن قوته ولا مسكنه. الكثير من المسنّين ليس لديهم منزل ولا مُعيل ممّا يضطّرهم للعمل الدؤوب من أجل تأمين مستلزماتهم، وكثيراً ما نقرأ في صفحات السوشيال ميديا عن طلب عمل لمُسنٍّ يبلغ من العمر ستّين عاماً مع العلم ومن المفترض أن يكون الإنسان في مثل هذا العمر متمتعاً بالراحة والسكينة، متفرغاً لقراءة الكتب والاستمتاع بالوقت مع الصحبة وزيارة الأحفاد ورواية الحكايات لهم عن ماضيه ومغامراته. يُنظّم وقته بين النوم وتناول الدواء والمطالعة والسفر وممارسة بعض الهوايات التي تناسب عمره. لكن للأسف، المُسنُّ في بلادي سواء كان ذكراً أم أنثى هو مُنهك مُتعب يقضي ساعات طويلة في العمل ويصارع عجلة الحياة من أجل لقمة العيش، مهزوم بعيد عن أحفاده، عن أولاده يغالبه المرض. إذا أراد أن يأخذ قسطاً من الراحة تراه ينشغل بأعمال منزلية، حتى الدواء ينساه أحياناً، وكأنه كُتب عليه الشقاء حتى آخر نفس! يقضي سهراته بمفرده لا كهرباء تُنير غرفته ولا تلفاز ليُسلّي وحدته بسماع أخبار العالم ومشاهدة الدراما، ولا أماكن مجانية يذهب إليها ويلتقي مع أصحاب من عمره يتسلّى معهم في أحاديث مشتركة عن زمانهم واهتماماتهم. المُسنُّ في بلدي هزمته السنون وخانته الشعارات وسحقته الأزمة فتركته وحيداً يصارع عقارب الزمن حتى يخلُد إلى مثواه الأخير بسلام، حينئذٍ سيجد الراحة الأبدية بعد العراك مع شقاء العمر.