هل تتذكرون يا رفاق؟!
محمد أنجيلة:
كم شربنا كؤوساً غير دافئة! وكم تدثرنا برداء أفكارنا! وكم طالنا الأذى الاجتماعي! وكم آلمتنا نظرات البعض ممّن حرصنا على الدفاع عنهم! فهل يتذكر الرفاق؟
كم صبرنا على وجعنا! وكم حوّلنا آمالنا إلى أغانٍ للحلم! إنها الحياة الإنسانية، يا رفاق، من لا يشعر بوجعها لن يتحسس جمالها.
عندما نتحدث عن بعض الفواصل والعلامات التاريخية، فإننا لا نقصد نكء الجراح، وإنما عجن التجارب والخبرات.
حدث في ذاك اليوم في بداية ١٩٧٣، على ما أذكر، انتخابات الإدارة المحلية، ولا اذكر وجود قوائم جبهوية، الذي أذكره تماماً أن منظمة الحزب بدوما رشحت رفيقين، هما الرفيق أحمد لكّه (أبو عبده)_ والحقّ يقال إن بيت هذا الرفيق كان مفتوحاً لكلّ الرفاق_ والرفيق المخضرم محمد النائب (أبو ياسين).
الصراعات السياسية كانت شديدة جداً، وأجواء العمل السياسي ملبّدة، فالموضوع جديد.
حرصاً على عدم تشتيت الأصوات انسحب الرفيق محمد النائب، لصالح الرفيق أحمد لكّة.
نال البعثيون الحصّة الأولى، وأعتقد نجح للناصريين عضو أو اثنان من أتباعهم أو مواليهم.
ولم ينجح مرشحنا المستقل، لكنه نال ٩٢٥ صوتاً، وهي نتيجة جيدة، في ظل عداء مستحكم من التيارين القومي والإسلامي للشيوعيين.
نعم، خسرنا الانتخابات، رغم جهود أكثر من خمسة وعشرين رفيقاً في مراكز الاقتراع. لكننا أثبتنا وجودنا كمنظمة باسلة، لها وجود في مدينة محسوبة على التيار القومي الناصري، والمزاج الديني الإسلامي التقليدي، وحزب البعث الذي بدأ ابتلاع الطلبة، معتمداً على أحد بنود ميثاق الجبهة الذي يحظر على قوى الجبهة، ما عدا البعث، العمل بين الطلاب.
كانت درجة العداء مستحكمة بين الرفاق والتلاوين السياسية الأخرى، فالمزاج التحالفي الجبهوي لم يترسخ بعد، وما زلنا نخطو أُولى تجاربه، ولم يكن هناك أيّ لقاء سياسي رسمي مع أيّ طرف.
كان التيار القومي، المعجون نسبياً بالمزاج الديني، تهمته لنا جاهزة، وهي أن افكارنا مستوردة.
التيار الديني بمشتقاته ينظر إلينا على أننا مارقون وخارج الملّة.
أحد أكبر المؤثرات في حياة الرفاق والمنظمة هو انشقاق الحزب ١٩٧٢، الذي أضعف المنظمة، وأضعف العمل بين الشباب.
كان توزيع بيانات الحزب مهمة مقدسة، وقد تكفّل بالتوزيع عددٌ من الرفاق على رأسهم: أحمد لكه، والمحامي محمود هارون، والنقابي محمود حليمة.
وقد شاركت معهم أكثر من مرة في ذلك.
أيضاً برز الرفيق عبد القادر الممّا، كواحد من أوائل المعلمين في المدينة، وأعتقد أنه مثّل الحزب في نقابة المعلمين لمرّة واحدة.
تعرّضت آنذاك لدسيسة خسيسة من أحد المتشددين الإسلاميين، مما أدّى إلى اعتقالي، وكنت في منزل الرفيق إبراهيم حنن (أبو ماجد) حوالي الساعة الثانية عشرة ليلاً، والرفيق أبو ماجد لا يزال يعمل في قيادة المنظمة حتى الآن.
وجرى الإفراج عني بعد فترة قصيرة، عندما اتضحت الوقائع.
ولم أكتفِ بذلك بعد خروجي، فالتقيت بهذا الشخص وضربتُه أمام حشدٍ من الناس.
كان للرفيق محمد النائب دور مهمّ في تأسيس جمعية المواصلات في دوما. وللعلم هذا الرفيق توفي ١٩٨٧في أحد احتفالات الحزب في سينما الزهراء.
كانت الحوارات والنقاشات السياسية مع الآخرين تستند دائماً لمواقف حصلت في الماضي، مما سبّب انقطاعات متواصلة ومتشنّجة.
كانت علاقتنا سيّئة مع الناصريين، بسبب الموقف من الوحدة عام ١٩٥٨، فقد دخل السجن أكثر من عشرة رفاق في تلك الفترة والذكريات لا تزال ماثلة وطرية.
آنذاك، لم تكن القوى السياسية والوطنية تعرف فكرة المسامحة والبناء عليها.
وهذا ما جلب الكثير من الخسائر، وكانت حالة العداء مستحكمة اعتماداً على مواقف الماضي، وهذه من أكبر كوارث العمل السياسي عموماً.
كنا نحن الأضعف في المدينة. ولا يصح أن ندخل في معارك وهمية. وحاول الكثير من الرفاق البحث عن المشتركات مع الآخرين، ونجحنا في ترطيب الأجواء وكسبنا عدداً من الأصدقاء. لكن، وكما يقال، تلبّدت الأجواء بالغيوم، بعد كلمة الرفيق خالد في مجلس النواب، المتعلقة بشركة (تريبكو) الأمريكية.
نعم، برز عدد من الرفاق على مستوى المدينة كأسماء محترمة سلوكاً وقيمةً معيارية أخلاقية.
نذكر منهم الرفيق خليل الصيداوي (معلم حرفة)، والرفيق المهندس إبراهيم طعمة، الذي مثّل الحزب عدة دورات في مجلس المدينة، بسمعة عطرة وكان صوت الحزب المميّز. والرفيق المهندس علي المليح، الذي عمل في معمل إسمنت عدرا وترك أجمل الانطباعات. ولا بد من ذكر الرفيق المرحوم الدكتور زهير الممّا، الذي ساهم في بناء منظمة شبابية في بداية سبعينيات القرن الماضي، ودوره في مساعدة طلاب اتحاد الشباب.
إنها ذكريات نضالية مريرة وجميلة بآن معاً، ولا يسعنا ذكر كل المواقف، لكننا آثرنا تسليط الضوء على بعض نضالات الرفاق في بقعة جغرافية أعتقد أنها الأصعب في سورية.
كنا نتندر بما يشبه النكتة في صفوف الرفاق، بأن الرفاق الذين أتوا إلى الحزب بالوراثة لهم حسنة واحدة، أما من أتى إلى الحزب عبر القناعة والعمل النضالي فله ثلاث حسنات.
طبعا هذا لا يقلل من أبناء الرفاق قيمة ونضالاً وسلوكاً.
أجمل الانطباعات والذكريات كانت في حراسة مكاتب الحزب في دمشق، وقد تفرغت للحراسة عام ١٩٨٠ براتب ٦٥٠ ل. س. وسبق أن التقيت عدّة مرات في مكتب البحرة بالرفيق الشهيد نضال آل رشي حيث كان يعمل.
كانت حصة منظمتنا من (نضال الشعب) ٢٠٠ عدد، ومن (دراسات اشتراكية) ٤٠ عدداً.
كنا نجتمع ممثلين لاتحاد الشباب في بيت الرفيق الطيب عدنان آل رشي.
وبحضور ممثلي الاتحاد في ريف دمشق، أذكر منهم محمد طالب وسمير حسواني وياسر الأحمد …وغيرهم.
ولا ننسى أيضاً مواقف الرفيق المهندس ياسين النائب في مجلس المدينة، ربما نحتاج للكثير من نكش الذاكرة، فهناك صور رائعة من تضحيات الرفاق غير المعروفة.
كلّها صبّت في روافد النهر النضالي لحزب يتقلّد اليوم الزهرة المئوية.