أنا أفعل.. وأنتم تستنكرون!

د. أحمد ديركي:

القيام بعمل ما يستلزم القدرة على القيام به، فلا يمكن إنجاز أيّ عمل مهما كان ضئيلاً أو ضخماً من دون أن يكون لدى الفاعل القدرة على التنفيذ. وفي حال عدم توفر القدرة على التنفيذ يفشل القيام بالعمل، وتكون مجرد محاولات القيام بالعمل.

في أحيان كثير يستفيد القائم بالعمل من عدم قدرته على التنفيذ، بدراسة مكامن ضعفه، فيعمل على تطويرها لإنجاز العمل المطلوب، أو قد يقوم بعملية تقليص للعمل بما يتوافق مع قدراته التنفيذية.

هذا الأمر منطقي في كل الأمور الحياتية والعسكرية أيضاً. فمثلاً عندما تكون قدرة الإنسان حمل حجر وزنه 10 كغ فلا يصحّ أن يقترح القيام بحمل حجر وزنه 10 أضعاف قدرته. إن اقترح القيام بفعل كهذا نكون أمام أمرين: الأول حالة جنونية، والثاني وجود داعم له للقيام بهذا الفعل. سواء كان الدعم آليّاً أو بشرياً أو كليهما.

اما ما يتعلق بالاستنكار فهو فعل لفظي أو كتابي يقوم به من لا يعجبه فعل الآخر. وغالباً ما يكون الاستنكار تعبيراً عن اعتراض على فعل مشين يقوم به شخص ما. لكن الجميل في الاستنكار أنه في كثير من الأحيان يبقى مجرد لفظ أو ورقة مطبوعة تعبّر عن الاستياء من دون أي تأثير يذكر على من يقوم بالفعل الشائن. وفي هذه الحال يعني أن المستنكر أجبن وأضعف من أن يضع حدّاً لهذا الفاعل غير الأخلاقي. فيستكمل الفاعل فعلته الشائنة من دون أي تأثر بالمستنكِر، فيتحول الاستنكار في هذه الحال إلى مزيد من دعم الأفعال الشائنة لأن الاستنكار فضح وعرّى ضعف المستنكِر.

أمّا إذا كان للاستنكار التعبيري، لفظاً أو كتابة، فعالية، بمعنى أن المستنكر استخدم الاستنكار أداة تنبيهية لمن يقوم بالفعل الشائن ليقول له إن كرّرت فعلتك فسوف تلقى عقاباً لما قمت به في السابق وفي هذه المرة. هنا يصبح فعل الاستنكار فعالاً رادعاً.

ما يحدث اليوم هو أن كل الاستنكارات، العالمية والإقليمية والمحلية، مجرد استنكارات داعمة لاستكمال الأفعال الشائنة. شكراً للتقنيات الحديثة التي يمكنها أن تخزن هذا الكم من الاستنكارات الداعمة لاستكمال القيام بالفعل الشائن.

أنا، تشير إلى فرد، بمعنى رقم فردي. لكن الأمر ليس كذلك. فالرقم الفردي يتألف من عدد لا نهائي من الأرقام الكسرية. إن عرف (أنا) كيف يستغل هذا العدد اللانهائي من الأرقام الكسرية المكونة له، في الوقت الذي لم يعرف (أنتم) وهو رقم متألف من أكثر من (أنا) كيف يستغل كثرته او استغلها دعماً (أنا) هنا (أنا) يصبح، كما قال فرعون: (أنا ربّكم الأعلى فأعبدونِ)!

من الجليّ أن ما نشهده حالياً من واقع مجريات العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في فلسطين تعبير واضح عن هذا الـ(أنا) العارف كيف يستغل مكونه اللانهائي من الأرقام الكسرية وفي الوقت نفسه يدعمه (أنتم) المكون من أكثر من (أنا) ليدعمه في استكمال أفعاله الشنيعة.

كل لحظة، وليس كل يوم، يرتكب الكيان الصهيوني (أنا) مجزرة جديدة بحق الشعب الفلسطيني وفلسطين، وفي كل لحظة يصدر (أنتم) بيانات استنكارية لهذه الأفعال. وكأن البيانات محضرة مسبقاً كل المطلوب فيها هو تغير تاريخ النشر لأن النص ثابت (نستنكر بأشد العبارات…) أو (ندين بأشد العبارات…). يستكمل الكيان الصهيوني أفعاله (أنا) ويستكمل (أنتم) بياناتهم الاستنكارية.

بالعودة إلى القجرة على القيام بالفعل من قِبل (أنا) فهذا الـ(أنا) لا يستطيع أن يقوم ما يقوم به لأنه يقوم بأفعال تفوق قدرته بعشرات الأضعاف. وهذا واضح من القدرات العسكرية وصولاً إلى الاقتصادية. فكيف يقوم بفعل يقدر بعشرات أضعاف قدرته؟ ما يجعله قادراً على القيام بهذا هو كم البيانات الاستنكارية التي يتلقاها! كل بيان استنكار مع وقف التنفيذ تعبير عن دعم له، والدعم هنا على كافة المسويات العسكرية والمادية والمعنوية.

الأمر الجميل يبدو أن تكنولوجيا اليوم لم يعد في استطاعتها تخزين البيانات الاستنكارية، فتحول البيان الاستنكاري إلى جمل قصير كي تمرر مع الأخبار العاجلة على شاشات التلفزة.

ها هو ذا الأمريكي يتحدث باسم الصهيوني، وفي الوقت عينه يستنكر أفعاله الشائنة في بعض الأوقات، والمصري صاحب اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني يفاوض مع الصهيوني لوقف إطلاق النار، ويستنكر أفعاله الشائنة خجلاً من عروبته وشعبه، والقطَري صاحب أكبر قاعدة عسكرية لأمريكا الداعم الأكبر للكيان الصهيوني يستضيف قيادات حماس، ويستنكر خجلاً وفي أحيان كثيرة لا يستنكر، والسعودي المنبطح تحت أقدام الأمريكي غير مبالٍ إلا بالترفيه ودفع فواتير التسليح للكيان الصهيوني، والعراقي غارق بصراعاته السلطوية غير مبال لا بفلسطين ولا بغير فلسطين، بين حين وآخر يستنكر استنكار دعمي للكيان الصهيوني، واللائحة تطول.

هكذا يستطيع الكيان الصهيوني (أنا) أن يفعل عشرات أضعاف ما يستطيع منفرداً فعله، فكل هؤلاء (أنتم) معه بطريقة مباشرة من دون أي خجل أو تخفٍّ، بل يستنكرون. فيتحول الاستنكار إلى فعل دعم لا فعل ردع.

ما دفعني إلى تأكيد قول أن الفعل الاستنكاري فعل داعم للمعتدي، إن لم ينفّذ الاستنكار، هو أنه خلال الحرب الأهلية في لبنان كان قائد أحد أحزاب اليمين المدعوم علناً من قبل الكيان الصهيوني، ودخل القصر الرئاسي على الدبابة الصهيونية، وكان على علم باجتياح لبنان عام 1982 وساهم في الاجتياح وذبح الفلسطينيين والقضاء على المقاومة الوطنية، وكان على اتصال مع قوات الردع العربية في لبنان،  في لقاء له مع قادة العدو يطلب منهم سلاحاً قال لهم (كي أكون رئيساً عليّ أن أخفّف اللقاءات معكم)، فكان ردّ أحد الصهاينة عليه: (أصدِرْ بياناً استنكارياً، فالعرب يكتفون بالبيانات الاستنكارية ولا يفعلون شيء سوى الاستنكار).

وهذا ينطبق فعلاً على ما يحدث في فلسطين وبحق الشعب الفلسطيني. راقبوا البيانات الاستنكارية تعرفون مجريات الأحداث وإلى أين سوف تؤول. كلما تزايدت البيانات الاستنكارية تزايد دعم الكيان الصهيوني لاستكمال جرائمه بحق فلسطين والشعب الفلسطيني. الصهيوني واضح الهدف لذا يفعل ما يفعله لتحقيق هدفه، لكن أصحاب البيانات الاستنكارية أجبن من أن يعلنوا عن هدفهم الخياني الداعم للهدف الصهيوني.

هل يمكن أن يتحول المستنكرون إلى فاعلين رادعين للتخلص من هذا الكيان الصهيوني وتحرير كامل أرض فلسطين التاريخية وتخليص الشعب الفلسطيني مما يعانيه من وحشية هذا الكيان، وتحرير كل الأراضي العربية المحتلة؟

نعم، ممكن. لكن للتحول شروطاً وثمناً!

العدد 1140 - 22/01/2025