مهزلة عقلية
د. أحمد ديركي:
من الأمور الجميلة في الحياة الواقعية التي نعيشها في عالمنا العربي ما له علاقة بالمهزلة العقلية. فوفقاً لكل المقاربات، سواء كانت غيبية أو غير غيبية، هناك شبه توافق على أن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية هو العقل.
لذا كثرت الصفات التي تطلق على الإنسان من أجل تمييزه عن بقية الكائنات الحية، مثل (الإنسان حيوان الناطق)، (الإنسان العاقل) … وغير ذلك. ومهما كانت هذه الصفات محاولة لتمييز الإنسان عن بقية الكائنات الحية فهي تُجمع على مسألة العقل. والعقل أداة أساسية للتفكير، والتفكير يتشكل من انعكاس الواقع في العقل لا العكس.
لكن هذا الإنسان العاقل في بعض الأحيان يصاب بالهذيان المضحك! ويصل هذيانه إلى حد المهزلة العقلية. وهي محاولة منه، ومن صنّاع هذه المهزلة العقلية، لإيهام من هم غير مصابين بهذه المهزلة العقلية على أنهم مصابون بالمهزلة العقلية. بعبارة أخرى محاولة إيهام الإنسان السليم بأنه مصاب بمرض المهزلة العقلية، والمصاب بالمهزلة العقلية على أنه سليم عقلياً.
وأكثر ما يجري هذا الإيهام في سياسات الأنظمة العربية! وقد تبدّى بشكل واضح مع مجريات الأحداث في فلسطين.
فقد ورد في بعض وكالات الانباء أن الكنيست في الكيان الصهيوني قرّر بالإجماع عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهذا أمر متوقع، فلو حدث العكس لكانت المفاجأة الكبرى. والمتوقع هنا لا يأتي من فراغ بل من سلوكيات قام بها هذا الكيان العنصري منذ نشوئه وما زال يمارسها بدعم من معظم دول العالم.
فأين تكمن المهزلة العقلية في هذا؟
تكمن المهزلة العقلية في أن الأنظمة العربية المطبّعة مع الكيان الصهيوني، تدّعي أنها لم تتخلَّ عن القضية الفلسطينية! وأن القضية الفلسطينية ما زالت على رأس أولوياتها! ويبدو أنها فعلاً على رأس أولوياتها. فالكيان الصهيوني، منذ نشوئه وحتى تاريخه، اغتصب معظم أرض فلسطين، ولم يتبقَّ من فلسطين سوى بعض الشوارع أو المناطق الصغرى المعزولة والمقطّعة الأوصال فيما بينها.
فهذا الكيان يرتكب المذابح يومياً بالشعب الفلسطيني، منذ نشوئه حتى تاريخه، وما نشهده من إبادة لمن تبقّى في غزة ما هو إلا فصل من فصول رواية هذا الكيان، وهو بالتأكيد ليس الفصل الأخير.
وها هو ذا اليوم علناً يقرّر عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية. والدول المطبعة مع الكيان تقرّ ولو خجلاً بالدولة الفلسطينية. أليست هذه مهزلة عقلية؟! ولهذه الدول علاقات وطيدة مع كيان لا يقر بالدولة الفلسطينية، وفي الوقت عينه القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها، كما تدّعي! فيا لهول هذه المهزلة العقلية! كيف يمكن للقاتل أن يكون هو المقتول؟ في السياسات العربية هذا أمر ممكن!
واستكمالاً لفصول المهزلة العقلية أنه ما من دولة، من هذه الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني، استنكرت هذا القرار في الكنيست الصهيوني. كيف لها أن تستنكر وهي داعمة للكيان ومتنكرة للقضية الفلسطينية؟
والفصل الآخر من المهزلة العقلية مسألة الوسيط، حالياً، لوقف اعتداءات ومجازر هذا الكيان ضد غزة. فالوسيط هنا أمريكي. الأمريكي المرحّب به أينما حلّ! الأمريكي المصدر للأسلحة التي يقتل بها جيشُ الاحتلال الشعب الفلسطيني ويستكمل اغتصاب فلسطين أرضاً وشعباً! فهل تجرّأت دولة عربية على رفض وساطة الوسيط الأمريكي؟!
وهناك فصل آخر في المهزلة العقلية: المفاوضات السرية تُجرى في قطر، وقادة حماس مقيمون في قطر، أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط! وهناك أيضاً الوسيط المصري، المُشارك في إقفال معبره ومنع وصول المساعدات إلى الشعب الفلسطيني، وصاحب العلاقات الطيبة مع الكيان الصهيوني. فكيف له أن يكون وسيطاً وهو قد طبّع مع الكيان الصهيوني، وهذا الكيان لا يعترف بدولة فلسطين، فعلى ماذا يفاوض النظام المصري؟
يا لها من مهزلة عقلية من الواجب عليّ الاقتناع بها، لأن الأنظمة العربية والغربية تروّج لها. وإن لم أقتنع بها أكون أنا المصاب بمرض المهزلة العقلية! فهل من دواءٍ يمنع من الإصابة بهذا المرض؟
ولتأكيد المهزلة العقلية يقول الأمريكي المفاوض غير النزيه (إن وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) أصبح يلوح في الأفق…). وما دام الأمر محصوراً بحماس فلا ضرورة للاعتراف بالدولة الفلسطينية. فالدولة الفلسطينية لم تُذكر مرة واحدة في خطابات الوسيط غير النزيه، وإن ذكرت في مشروع غير متحقّق بعد! أمّا بقية الوسطاء، المشابهون له، فيقولون: (تعمل الولايات المتحدة مع قطر ومصر في مسعى لترتيب وقف لإطلاق النار في صراع غزة…).
نعم، قطر ومصر! ويبدو أنه تناسى الأردن، حالياً، لأسباب غير معروفة حالياً.
فكل مطبّع أو مهادن للكيان الصهيوني يصنف على أنه وسيط غير نزيه، هذا ما يقوله العقل غير المصاب بالمهزلة العقلية، والعكس صحيح. أليس هذا هو دواء منع الاصابة بالمهزلة العقلية؟