يا إلهي! عندما يسبق الأديب عصره
طلال الإمام_ ستوكهولم:
يا إلهي! صرخة كنت أطلقها وأنا أُبحر في كلمات القصص القصيرة للأديب السوري الكبير مراد السباعي (1914-2001).. لماذا؟
نوّهت منذ فترة بالهدية الثمينة التي تلقّيتها خلال زيارتي الأخيرة لبلدي سورية، وهي الأعمال الكاملة للأديب مراد السباعي، التي جمعها ونشرها مشكورين أولاده البررة: فريد، وليد، مريد.
قرأت القصص القصيرة التي يحتويها العمل، وكنت مندهشاً جدّاً، وأطلق خلال القراءة الممتعة:
يا إلهي!
لماذا؟
الأديب مراد سبق عصره في تناول مواضيع مختلفة: اجتماعية، وطنية، إنسانية، وتأملات في الحياة. وهو يتناول هذه الموضوعات وكأنه يعيش بيننا الآن.. ويكتب عن أوجاعنا.
كاتب يسبق عصره، يلتقط أوجاع مجتمعه ووطنه وكأنه يتجول اليوم في شوارع مدينته/ وطنه، وزواياها وحاراتها، يلتقط أوجاعها، يشاهد آثار الدمار، يشاهد الفقر والفساد وتداعياته الكارثية.
كاتب نسج قصصه كسجادة تضمّ كلّ ألوان وطنه وشعبه، أوجاع المجتمع وآماله. أليست هذه وظيفة الأديب/ الأدب الخالد؟ الأدب الذي يلتقط همسات ما يدور في القلوب والبيوت من أوجاع وآمال؟ ينقلها بعقل منفتح، منتقداً الموروثات البالية بعقل تنويري، مدني وعلماني.
إن من الصعب أن أكتب عن كل قصة قصيرة قرأتها في هذا الكتاب، لذلك سوف أتناول ما ورد فيها من أفكار حسب موضوعاتها التي أراها مهمّة وانية، رغم أنها كُتبت في القرن الماضي.
ورأيت أن أشير وبسرعة إلى أهم الموضوعات التي تناولها أديبنا الخالد.
* عن الغربة والحنين:
(… ما أقسى أن يشعر الإنسان بالوحدة وهو يعيش بين كثرة هائلة من الناس! يا لهذا الفراغ، كم يوحشني!)_ ص 18.
(شدّ ما كان يؤلمني أن أفارق دارنا، دارنا التي ولدت، وبين جدرانها السود أدركت وجودي الصغير الضاحك… وأن أبتعد عن ساحة الحي، المركز الرئيسي لاجتماع الرفاق!)_ ص 104.
(إنك تغريني بالملايين، ولكن قل لي ما تجدي الملايين حين يصبح الإنسان بلا أرض بلا ذكريات؟ إنني أفضّل على كل مباهج الدنيا حياة فأر في جحر صغير… هل تعلم أن الفأر لا يترك الأرض التي يعيش فيها؟ لهذا المكان في نفسي ذكريات لا يمحوها الزمن، ولا يمكن أن تزول من رأسي إلا مع الموت)_ ص 216.
(وكان حنيني إلى بلدي عنيفاً إلى حد يجعل الدموع تطفر من عيني، كلما ارتسم في ذاكرتي وجه صديق من أصدقائي، أو مكان من الأمكنة التي كنت أرتادها، أو اي شيء من الأشياء التافهة التي تتألف منها حياتي)_ ص 550.
* عن الحرب: (يقولون إنها الحرب… ولكن ماهي الحرب؟ لقد سمعت من أهلي أنها قتال بين جماعة من الناس وجماعة أخرى، وسألت لماذا يقتل الناس؟ فقيل من أجل الكسب. ففهمت من هذا أن المسألة لا تعدو كونها كما نفعل نحن الصغار شجار من أجل عرنوس)_ ص 9.
* محاربة الاستعمار:
(… فوجئت بمقتل خليلها الضابط في معركة ضارية شبت نيرانها في الهند الصينية بينه وبين الوطنيين من طالبي الحرية)_ ص 155.
(الأتراك أخطر من الجراد، فالجراد يقضي على موسم واحد، أما الأتراك فيقضون على كل موسم)_ ص 537.
(إذا كنا الآن نشكو من التخلف في بعض المجالات، لا سيما المجال الصناعي، فلا يعود ذلك في أسبابه إلى ضعف المواهب، بل يعود إلى أربعمائة سنة من الجهل أمضيناها تحت وطأة ثقيلة من الاستعمار العثماني…)_ ص 540.
*فلسطين:
(سألته: ومن أيّ بلد أنت؟ أجاب: الأصل من حيفا، أما الآن فلا مكان لي على الأرض)_ ص 115.
(كانوا قرابة مئة رجل، هبّوا لنجدة إخوانهم في فلسطين الذين كانوا يقاتلون العصابات الصهيونية دفاعاً عن أرضهم، هذه الأرض التي تبرعت بها بريطانيا ليهود العالم ليقيموا عليها دولتهم…)_ ص 203.
(والآن يندفع أبناؤنا إلى الموت لاستعادة الأرض.. في حين يقف معظم العرب يتفرجون ينظرون بأعينهم ويثرثرون…)_ ص 213.
*الفساد والثراء غير المشروع:
(لا أدري كيف استطاع بعض الناس ممن كنت أعرفهم أن يجمعوا تلك الثروات التي تقدر بعشرات الملايين، أكان ذلك نتيجة لجهدهم الفردي، للعمل باستقامة وشرف؟! نعم، اليوم عيد رأس السنة، وفي هذه المناسبات الجميلة ينفق اللصوص الشرفاء على الموائد الشهية آلاف الليرات.. هناك في المقاصف الماجنة تبرز النهود العارية متواكبة على أنغام الديسكو…)_ ص 206.
(وهكذا هم الأثرياء يمتصون دماء الناس كما تمتص الطفيليات نسغ الحياة من جذوع الأشجار… أولئك الذين يجتمعون الليلة في المقصف الذي أقصد، ليستمتعوا بالمال المسروق من صناديق الدولة وجيوب الناس البسطاء)_ ص 207.
(إنكم محترمون جداً أيها السادة اللصوص، جميعكم محترم: لصوص التجارة، لصوص التهريب، لصوص التعهدات، لصوص الشركات والوسطاء والسماسرة، ولا شكّ في أن مجتمعكم ينظر إليكم بتقدير وإعجاب باعتباركم القوة الفاعلة في تصريف شؤونه الاقتصادية)_ص 209.
* أساليب التربية والتعليم:
(نشأت في أحد البساتين القائمة على ضفاف العاصي على يد أبيها الشيخ عبد القادر، الرجل الخشن الطباع، القاسي القلب، العتيق في معتقداته وأساليب عيشه، والذي لم يكن يعرف من أصول التربية والتهذيب إلا الصفع والركل واستعمال العصا في كل مناسبة)_ ص 88.
(لا تذهب إلى السينما، لا تجلس في القهوة، لا تعاشر أحداً… أواه تكاد تمزقني هذه الـ (لا) المهيّأة أبداً لقتل كل رغبة تنبثق عن إرادتي… أريد الحياة التي أحبها، الحياة الخالية من الضغط والإكراه والمراقبة، أريد بارقاً من الحرية يجعلني أشعر إزاء نفسي بأنني كائن مستقل يفعل ما يشاء لا ما يشاء الآخرون له…)_ ص 154.
(المدرسة.. أشبه ما تكون بالسجن، فكل شيء فيها يخضع للنظام، الحضور والذهاب، الأكل والشرب، حتى اللعب، أما الأساتذة فكان منظرهم والعصي في أيديهم أشبه ما يكونون بالرعاة.. أما الآذن الذي كان يقف بصورة دائمة على الباب فكان أشبه بالسجّان)_ ص 544.
- عن الحجاب
(لقد ابتاع لي أبي أمس حجاباً كثيفاً، وأمرني أن أضعه على وجهي عندما أخرج من البيت.. مسكين أبي.. إنه يؤمن بأقوال أمي، ويسايرها في كل ما تريد ولو كان في ذلك شقاء الآخرين وموتهم، لكني لن أدع لها أي مجال للسيطرة عليّ، فأنا أحب دائماً أن أفعل ما أريده لنفسي، لا ما يريده الآخرون لي.. لقد أحرقت الحجاب أمام عينيها التي كادت أن تجحظ من شدة الذهول.. وبهذا استطعت أن أؤلمها.. أن أحطم نفوذها… ما أحقرها من خرقة سوداء أضعها على وجهي كي لا يراني الرجال! وما عسى أن يحدث لو شاهدني في كل لحظة ألف رجل ورجل؟ هل لهم غير النظر.. والنظر من بعيد بكل حذر.. ما يضرّ هذا؟)_ ص 65.
(مرّ بالمكان شيخ وقور ذو لحية بيضاء مستديرة وعمامة خضراء، وعندما لمح العاشقين وقف يحدّق بهما بنظرات قاسية، ثم فتح فمه الواسع الشبيه بفوهة التنور وراح يشتمهما ويبصق على الأرض …)_ ص 86.
(جائزة نوبل للسلام أيها المجرمون.. أيها السفّاحون.. متى كانت جائزة السلام تُمنح للقتلة والخونة؟).
دور الفن والفنان
(ولكن ما الفائدة من صنع أشياء لا يفهمها الناس ولا يريدون منها.. إنني اريد أن اكون مفهوماً من أم حسن وبائع الحليب وأجير الفران، من كل طبقات الشعب بلا استثناء، وإذا كنت لا أستطيع أن أقدم للآخرين الشيء المفيد والممتع معاً، فما قيمة أعمالي؟)_ ص 175.
(إن أدب المرايا المقعرة، الأدب الذي يظهر الأشياء على غير حقيقتها، الأدب الذي يثير الدهشة ولا يقدم الحياة، هو أدب ولد للموت)_ ص 239.
- عن العمل وأهميته:
(… ولكن ثمة مخرج مما نعانيه، إنه العمل، فهو وحده يستطيع أن يبعدنا عن التفكير في همومنا.. سنتعاون جميعاً على إحياء الأرض، سنحرثها ونزرعها ونعيدها خضراء كما كانت)_ ص 119.
- الحب
(وهكذا منح الحبيبان نفسيهما، بعد الحذر الشديد والمبالغة في التخفّي، مطلق الحرية.. وظهرا امام المجتمع، كعاشقين يودّان العيش كما يحلو لهما أن يعيشا، دون أن يهتمّا بما هو مألوف أو غير مألوف من عادات القوم وتقاليدهم…)_ ص 133.
- تأملات فلسفية وحكم للحياة!
(جميلة هي الحياة في صورتها البعيدة.. صورة المستقبل.. المرسومة بريشة أحلامنا… كل ما يجري في الفكر يطلب الأجمل والأحسن.. يطلب التبديل للواقع المريض)_ ص235.
(لا شكّ أنك ضعيف أمام من هو أقوى منك وقوي أمام من هو أضعف منك، إذاً فالقوة والضعف ليسا في شخصك وإنما في خصمك، فاعرف خصمك جيداً لتكون أمامه الأقوى في كل المواقف)_ ص 237.
(لا يخلو إنسان من نقص في عقله، ولكن هناك تفاوت في درجة النقص بين شخص وآخر، وعلى كل حال فالمجانين كلياً يعدّون قلّة بالنسبة إلى المجانين جزئياً، وإذا كان أحدنا لا يرى أي نقص في عقله فذلك لا يعني أنه سليم، فالمجانين لا يعرفون أنهم مجانين)_ ص 241.
(ربما أصبح العالم ذات يوم في خريطته السياسية وطنا مشتركا للإنسان، وذلك حين تتسامى المشاعر الإنسانية عن كل ما هو فردي وجزئي وتندمج في وحدة متجانسة، في الفكر والعمل لتحقيق الخير والعدالة في أعلى درجاتها على سطح الأرض)_ ص 242.
- عن الوطن
(ياوطني، ما أنت؟ ما تكون؟
هل أنت الأشجار والأنهار؟
هل أنت الجبال والوديان؟
هل أنت القرى والمدن؟
فإن كنت كذلك، فالعالم كلّه مثلك.
فلماذا لا أحبه كما أحبك
لا.. أنت لست كذلك
أنت أنا يا وطني
أنت الآباء والأجداد
الأزواج والزوجات
الأطفال والشبان
أنت العلاقات الاجتماعية التي تربط الفرد بالجماعة، أنت اللغة والحضارة والتاريخ.. أنت الناس أوجدتهم ظروف حياتية على قطعة محدودة من الأرض)_ ص 244.
ختاماً
هل تتعجبون أن صرخت (يا إلهي!) مرّات وأنا أبحر في قصص وحكم وفلسفات أديبنا الكبير الراحل مراد السباعي، الأديب الذي سبق عصره في استشراف ما نعيشه اليوم في أوطاننا والعالم. قصص كتبت في أواسط القرن الماضي ومازالت حيوية.
لعمري إنه الأدب الذي لا يموت، ومن كتبه سيبقى اسمه مخلّداً في سجل الطليعيين. والشكر ثانيةً لأولاد أديبنا البررة فريد، وليد، مريد، على إصدارهم الأعمال الكاملة لأديبنا، مع الأمل أن تقوم إحدى مؤسسات وزارة الثقافة بطبعه ثانية لتصل هذه الأفكار إلى شريحة واسعة وتساهم في نشر الفكر التنويري النهضوي الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه الآن.
طبعا ما أوردته في هذه الأسطر لا يغني أبداً عن قراءة العمل كاملاً.