الخصام والصفح.. هل يجب التطلع إلى الوراء دوماً؟

يونس صالح:

بين الخصام والصفح بونٌ شاسع، وبين أنواع الصفح مساحات ومسافات ينبغي إدراكها.

يعتقد كثيرون من الناس أن الصفح والعفو هما عطيّة أو هبة يمكن أن ينالهما المذنب من شخص يملك بالدرجة الأولى سلطة وقدرة على العقاب والقصاص، والسائد أن المذنب إنما ينال العفو والمغفرة بعد أن يبدي الضعف والندم والتوبة عما اقترفه من ذنب.

لقد ترعرع معظمنا وتربى في طفولته على أن يشعر بالذنب حتى يخرج عن طاعة والديه، حتى قبل أن يتعلم كيفية مواجهة مشاعر الأذى والظلم، يتعلم الأطفال منذ نعومة أظفارهم، شاؤوا أم أبوا، الطقوس السائدة في أسرتهم للحصول على المغفرة والسماح.. يتعلمون أن الحصول على عفو أبويهم إنما يكون ممكناً حين يعترفون بالذنب ويعِدون بعدم العودة إليه ثانية ويعتذرون بحرارة.. إن الحصول على العفو غالباً ما ينهي إذاً موقفاً غير سارّ بالنسبة للطفل، ويسمح له بالتحرر من الألم ومشاعر الذنب ومن مخاوفه إزاء استمرار غضب والديه ومقاطعتهم له. يشكل الاعتذار على العموم في هذه الحالة مظهراً من مظاهر انصياع الطفل وخضوعه لقوّة والديه وهيمنتهما.

ومن المرجح أن معظم الناس يتعرضون خلال طفولتهم لمثل هنا (التمرين) على طأطأة الرأس، مما يخلق لديهم نزوعاً لكي يدركوا المسامحة والصفح في سياق مؤلف من الخطأ والمعصية والعقاب.

وفي معظم الحالات، وخاصة فيما يتعلق بالأطفال، فإن الذي يسامح غالباً ما يكون أحد الأبوين أو كلاهما، وهما اللذان يندر أن يصابا بأذى حقيقي وجدّي من طرف صغارهما، ولا يعدو الأمر في مثل هذه الحالة أن يكون (تكتيكاً تربوياً) ومظهراً من مظاهر سعي الآباء إلى إثارة مشاعر الذنب والندم عند أبنائهم، دون ارتباط فعلي بأذى واقعي ألحقه الطفل بوالديه. ترفع هذه المواقف الناس إلى أن يروا في عملية الصفح والمغفرة تفاعلاً أو عملية تجري بين شخص ارتكب إثماً أو خطأ، وشخص آخر يمتلك السلطة والحق في المغفرة.

إن معنى أن نسامح مذنباً هو أن نقول له أو نوحي إليه بتصرفاتنا تجاهه بأننا لم نعد ناقمين عليه، وبأننا لن نمضي في مقاطعته أو في أي ضرب آخر من ضروب معاقبته، ومن هنا فإن المغفرة تبدو كنوع من العطاء للمذنب، ويجب أن يستحقه من خلال سلوكه اللاحق.

إن لدى معظمنا تداعيات شبيهة بشكل أو بآخر بما تقدّم، وهذه التداعيات يمكن أن تزيد من تعقيد الموقف النفسي للأشخاص الذين سبق لهم أن تعرضوا في طفولتهم لسوء المعاملة وللأذى، وخاصة أولئك الذين لم يتمكنوا رغم مرور السنين من أن يتحرروا من آثار الخبرات المؤذية.

إن الصفح يتيح للمرء أن ينعتق من أسر الماضي، أن يتخلص منه كي يتمكن من التوجه بطاقاته نحو الحاضر، لكن الماضي بالنسبة لبعض الناس، برغم كونه مشرعاً بالأمل والمعاناة، فإنه يظل مركزاً للاهتمام، يجذبهم إليه بقوة رغم شدة المعاناة التي عرفوها فيه، بل إن استمرار التمسك بالألم واجترار المعاناة يساعدهم على عدم (مغادرة) الماضي. إن الأحقاد القديمة والمظالم التي تمر عليها سنوات طويلة يمكن أن تتحول إذاً إلى نوع من (مرساة نفسية) تمنع سفينة حياة البعض منا من الإقلاع بعيداً عن موقع المرساة.. ومن الناحية النفسية يمكن تفسير تثبت المظلوم على الماضي وعجزه عن التوجه نحو الحاضر والمستقبل بأنه ناجم أحياناً عن صعوبة التخلي عن الرغبات غير المشبعة.. فالمسامحة بالنسبة له تعني بداية طريق جديدة في حياته، وتوديع الماضي من أجل ضرورة (مواجهة الحاضر والالتفات نحو المستقبل).

إن استمرار العيش في الماضي، أو مواجهة الحاضر وتفسيره انطلاقاً من الماضي وإساءاته يساعد في تبرير تأخير اتخاذ القرارات في الحاضر، وفي الإحساس بالمسؤولية عن المستقبل.

 

العدد 1140 - 22/01/2025