حين لم نعبر النهر

حسين خليفة:

الجيل الذي كان يمشي حافياً يعبر الأزقة الترابية إلى المدرسة الطينية القابعة في أطراف القرية، أو كان (يسافر) كل يوم إلى القرية المجاورة لأنه لا توجد مدرسة في قريته، يعبر الوديان والسهول، يعبر النهر، ليصل إلى تلك المدرسة، حيث تنتظره عصا المعلم الوحيد المُتكفّل بتدريس الصفوف كلها من الأول إلى السادس في كل حصة، ولا حل إزاء هذا الركض خلف الوقت سوى العصا.

الجيل الذي لم يعرف ماذا تعني الحقيبة المدرسية، أو بوط الرياضة، المقلمة، كان يحمل كتبه وأقلامه في كيس ورقي ويذهب متحمساً إلى مدرسته، ويلعب حافياً بكرة افتراضية على أرض ترابية أمام المدرسة.

الجيل الذي لم تكن لديه تسليات (الموبايل) والإنترنت ومدن الألعاب، تسليته الوحيدة كانت لعبة (الغميضة) واللعب بجانب النهر بألعاب يصنعها بيديه من الطمي أو بالحيوانات المائية من سرطانات أو سلاحف، وصيد السمك أحياناً، أو صيد العصافير والعودة باكراً إلى البيت قبل حلول الظلام لينجز واجباته المدرسية على ضوء (لمبة الكاز).

الجيل الذي لم يعرف أن هناك مكتبات تبيع الكتب للمطالعة أو تُعيرها للقراءة، كان يلتقط غلاف ورق السجائر نوع شام الذي يرميه الكبار عند الانتهاء منه فيقرأ بنهم ذلك الإعلان الطويل عن مزايا (ورق الشام) فخر الصناعة الوطنية رغم أنه حفظه عن ظهر قلب، أو يلتقط ورقة من أوراق روزنامة الحائط فيقرأ الحكمة المكتوبة على قفاها ويحتفظ بها أحياناً، وفي أحسن الأحوال يستطيع اقتناص صفحات من كتب (الزير سالم) أو (رأس الغول) التي كان العم أبو شهاب الرجل الوحيد في القرية الذي يفكُّ الحرف يقرؤها للرجال في مضافة الآغا خلال سهرات الليالي الطويلة، أو في بيت أحد العامة، فيقتنص الولد لحظات استراحة الحكواتي ليقرأ صفحات من الكتاب تجعله يرسم في عقله الصغير صوراً كاملة عن عالم خيالي من الأبطال والجبناء، الأنقياء والمنافقين، العشاق والحساد، بأسمائهم ووجوههم ولباسهم إلى حين.

لم يكن جيلاً من القديسين الأطهار، لكنه حفر في الصخر حتى وصل إلى دراسة المرحلة الإعدادية في المدينة القريبة، ثم واصل الحفر في صخرة الأمل وهو يرتاد المدارس مع أقرانه أبناء المدينة الذين ينظرون إليه بتعالٍ وسخرية طوال الوقت، واجتاز هذه المراحل بظروف قريبة إلى ظروف دراسته الابتدائية حتى وصل إلى المدن الكبرى ودرس في جامعاتها وتخرج وكتب أشعاراً وقصصاً ومقالات إضافة إلى الدراسة في اختصاصه العلمي.

لم يكونوا قديسين، لكنهم لم يكونوا يعرفون فنون النقل باستخدام التكنولوجيا أو شراء المراقبين ورؤساء المراكز من أجل النجاح.

هذا الجيل بدأ بالانقراض، إنه يذرف آخر أبنائه وتلك طبيعة الحياة، ليحلَّ محلّه جيل يتباهى بثمن الموبايل الذي يحمله أو قسط الجامعة الخاصة التي استطاع البابا أن يسجله فيها بِحُرّ ماله.

وبعضهم يردّد علنا أنه لا حاجة لأن يُتعب نفسه بالدراسة ومراجعة المناهج والمراجع مادامت الطريق إلى النجاح سالكة بالدفع، في ظروف الفقر الأسود والغلاء الفاحش وانفلات غرائز النهب والتشبيح التي أوصلوا البلد إليها، الظروف التي تُجبر كل العاملين بأجر على بيع ضمائرهم من أجل إطعام عائلاتهم، وهم ليسوا مُدانين، بل المُدان هو من أوصلهم وأوصل البلد إلى هذه الحال المزرية.

حتى لا نقع في مطبِّ التعميم، نؤكّد أن هناك استثناءات ممّا قلناه عن الجيلين، هناك من جيل البدايات من (سبق زمانه) وتسلّق سلالم السلطة والجاه بعبقرية لافتة، واشترى شهاداته من بلدان كانت تعيش ظروفاً قريبة ممّا عشناه لاحقاً ليضع ألقاباً علمية أمام اسمه، ويتدرّج في المناصب العلمية والحكومية ويُحقّق ما يريد، وهؤلاء أسّسوا للخراب الذي نعيشه الآن، ولتأسيس هذا الجيل الذي نتحدث عنه.

وهناك من أجيال هذا الزمن من يخرج عن القاعدة ويُحقّق ذاته ويطور نفسه بالتعلّم والتدريب المستمر، وأغلب هؤلاء لا يلبثون أن (يهجّوا) من بلد طارد للمواهب والإبداع والتفكير خارج الصندوق الأسود العفن.

هي مقارنه سريعة استَحضَرها ظرف الامتحانات النهائية لشهادتي التعليم الأساسي (التاسع) والبكالوريا  والفضائح التي تزكم الأنوف، ومهزلة قطع الإنترنت والاتصالات خلال ساعات الصباح في استعراض سخيف يؤكّد عجز المنظومة عن ضبط الفوضى والغش والتزوير، ما دام القائمون على العملية التربوية والامتحانية مثل غيرهم من العاملين بأجر، جائعين، والجائع سيجترح أي طريقة لكي يؤمّن قوت يومه، وهذا أساس المشكلة وشريان استمرارها مهما أظهروا لنا من أساليب سخيفة مثل قطع الإنترنت والاتصالات، وتعطيل مصالح الناس، والحالات الطارئة من حوادث أو حرائق أو حالات مرضية خلال ساعات كل يوم امتحان.

الحلول ليست سهلة وليست في متناول اليد، فالخراب سهل وسريع، لكن إعادة البناء واللّحاق بقطار التطور المذهل في سرعته صعبٌ وعسير ويكاد يكون مستحيلاً.

لكن أي حلٍّ لا بدَّ أن يبدأ بإعادة نظر جذرية في أجور العاملين لتُحقّق الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، ثم ننطلق إلى تطبيق الحلول العلمية والمنطقية للمشكلات والكوارث التي خلّفتها عقود التفرّد والاستبداد والفساد.

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025