بين فلسطين واللغة العربية
د. أحمد ديركي:
تحمل اللغة العربية أقوالاً واشتقاقات جميلة لها موسيقاها المتناغمة. فالأذن تسمع والإنسان المستمع ينطرب لجماليتها، أي لجمالية اللغة العربية. جمالية موسيقية وتعبيرية في آنٍ واحد، تحفز الفكر على التجديد الدائم، باعتبار أن اللغة أداة تعبيرية عن الفكر البشري، أداة لا يجيدها إلا الإنسان.
قد يكون هناك لغات أخرى لها جماليتها الموسيقية والتعبيرية، وكل شعب يفتخر بلغته، وبخاصة إن كانت لغته غنية بغنى اللغة العربية، أيْ يمكن أخذ اللغة العربية كمقياس جمالي للغات وغناها. لكن مع الأسف عندما تُهيمن لغة الأقوى، وإن كانت لغة حديثة لا تملك من الموسيقا والغنى ولا حتى جزءاً يسيراً من اللغة العربية، تصبح لغة الأقوى وكأنها تلك اللغة (العالمية) التي لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها لغة الأقوى والتمايز في المراتب الاجتماعية.
هنا يمكن طرح سؤال بديهي: لماذا هذا النفور من اللغة العربية؟ هل المشكلة في الأنظمة التعليمية؟ قد تحمل الأنظمة التعلمية في العالم الناطق باللغة العربية جزءاً من المسؤولية، لكن الجزء الأكبر تحمله الأنظمة المدعية أنها عربية! وهنا يجب التمييز بين المدّعي والفعلي.
أمر يأخذنا لتوضيح هذا الادعاء إلى مثال ملموس. ومن أوضح الأمثلة على الادعاء بأنها أنظمة عربية: القضية الفلسطينية.
نعم، القضية الفلسطينية يومياً، منذ احتلالها من قبل الكيان الصهيوني وهي تظهر يوماً بعد يوم مدى عمق هذا الادعاء، وصولاً إلى أنه لم يعد هناك من مجال لتغطية الادعاء لينتقل من مرحلة الادّعاء إلى مرحلة التكاذب المفضوح.
يومياً الكيان الصهيوني يقضم جزءاً من فلسطين، ويرتكب أبشع الجرائم بالشعب الفلسطيني وبكلّ مقاوم. فالشعوب المقاومة لكل أشكال الاحتلال والداعمة لقضايا التحرر والحاملة للفكر التحرري والتغيري أتت إلى المنطقة وانخرطت في صفوف المقاومة، أو المقاومات الشعبية لهذا الاحتلال، في الوقت الذي منذ نشوئها عملت هذه الأنظمة على قمع كل أشكال المقاومة الشعبية للمحتل. وادعت احتكار مقاومة الاحتلال، وحشدت جيوشها وأنفقت المليارات من العملات الصعبة على تسليح جيوشها من أجل تحرير فلسطين. لكن فلسطين لم تُحرّر بل تكرس فيها الاحتلال إلى حدّ أصبح ما تبقّى من فلسطين لا يزيد عن مساحة قرية صغيرة في دولة عربية صغيرة.
كل هذا يحدث وما زالت هذه الأنظمة تستخدم اللغة نفسها، أي اللغة العربية، في خطاباتها من أجل تحرير فلسطين! ولكن عن أي فلسطين يتكلمون؟ لا أعلم، وأرجو ممن يعلم أن يخبرنا.
وها نحن اليوم نشهد يومياً ما نشهد من ذبح وسلخ للشعب الفلسطيني، وهذه الأنظمة هي هي! فكيف للشعب العربي أن يؤمن بلغته إن كانت لغته السياسية قد خانت قضيته السياسية؟
نعم، إنها خيانة وكل مستمع إلى ما تقوله الأنظمة الغربية، بلغاتها المتعددة، من دعم للكيان الصهيوني، يدرك مدى تناغم القول اللغوي مع الفعل العملي. فهم يدعمون لغةً وفعلاً. وقد يكون أوضحهم ذاك النظام الأمريكي الداعم للكيان الصهيوني. فما من خطاب للرئيس الراهن لهذا النظام إلا وفيه تعابير الدعم المطلق (لأمن) الكيان الصهيوني، والسماح له بارتكاب ما يريد من مجازر بحق الشعب الفلسطيني وبقضم فلسطين وما تبقّى منها. ولا يتوقف الأمر عند حدود الأنظمة الغربية، بل هناك العديد من الأنظمة الأخرى الناطقة بلغات أخرى تتماثل في هذا! أما تلك التي لا تدعم الكيان الصهيوني، فهي قليلة.
وكذلك الأمر حتى بالنسبة للمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وتفرعاتها، وبخاصة تلك التي تدّعي أنها تعمل وفقاً لحقوق الإنسان. فما من بيان لها عما يجري في فلسطين إلا وحمل عبارة (قد…)، و(يمكن أن ترقى إلى…) للإشارة إلى ما يجري من مجازر بحق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. وما هذه التعابير إلا تعابير تشير إلى الاحتمال، والاحتمال قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً. أي أن ما يجري من مذابح يومية ضد الإنسانية في فلسطين (قد) أو (قد يرقى إلى) هذا المستوى، وما من شيء مؤكد حتى اليوم!
بهذا تناغمت أقوال اللغة مع أفعال قائليها. يمثل هذا التناغم إلى حد كبير جزءاً لا يستهان به من الأجزاء المركبة للثقة باللغة، ويقود إلى تطويرها وتدعيمها وتعميمها، سواء بين أفراد متكلميها أو فيمن هم خارج متكلميها.
وإن أردنا إجراء مقارنة بسيطة بين أقوال الزعماء العرب عن القضية الفلسطينية ومجريات الأحداث فيها وأفعالهم، لوجدنا هذه الهوة السحيقة التي لا يمكن ردمها! فكيف للشعوب العربية الناطقة باللغة العربية أن تثق بلغتها؟ فيصبح من السهل جداً، ومن دون أي عناء لأي لغة، وتحديداً لغة الأقوى، أن تهيمن على عقول متكلمي اللغة العربية، وعلى لغتهم المنطوقة. فتصبح اللغة العربية بالنسبة لهم عاراً يجب تجنبه ودلالة على مرتبة اجتماعية أدنى.
بهذا تذبل اللغة العربية، ومعها القضية الفلسطينة، وتتجه نحو الاضمحلال. لكن ما يمنع حدوث هذا حتى الآن هي الشعوب حاملة الفكر التحرري أينما وُجدت. هذه الشعوب التحررية الموحدة في أمميتها النضالية ضد الاحتلال بكل أشكاله، بكونه شكلاً من أشكال الاستغلال، استغلال الإنسان للإنسان.
فجمالية فلسطين من جمالية اللغة العربية، وغناها من غنى اللغة العربية، وقضيتها قضية الفكر العربي، والأممي التغييري – التحرري. وبهذا تجمع فلسطين الجمال، والغنى، والفعل الأممي.