خاطرة | (ليس كل شيء على ما يرام)
يونس صالح:
تتلفّت حولك وأمامك ووراءك وتحت قدميك، وسوف تقول معي: (ليس كل شيء على ما يرام).
انظر نظرة واحدة إلى الواقع المحيط بك، وخذ نفساً واحداً، وأنت واقف في الشارع، وسوف تلاحظ، دون مشقّة، ودون حاجة إلى أي قدرة خارقة على الحدس أو على الاستنتاج أن التلوث البصري والسمعي واللغوي والأخلاقي والذوقي الناشئ عن تصرفات البعض، الذين حصلوا على الثروة بوسائل غير شرعية، يُطْبق عليك بقبحه وسمومه الوبائية الخانقة من كل جانب، وإذا ذهب بك الفكر إلى السموم والأوبئة الأخرى التي تعتلج في نفوسهم وتتلبّد داخل ضمائرهم، وتكاد أن تجعل كل إنسان ذئباً وعدواً لكل إنسان، فلن تتردد في القول أو حتى في الصراخ: (ليس هناك أي شيء على ما يرام).
سأقصّ عليكم قصة من تاريخ الفلسفة والأدب، ربما توضح ما أحاول التعبير عنه. فقد تصور أحد الفلاسفة، وهو ليبنتز المتوفّى سنة 1716 في مذهبه اللاهوتي الميتافيزيكي، أن عالمنا هذا هو أبدع عالم يمكن تصوره. وقد حاول أن يدلّل على هذا بأن الله سبحانه، رحمةً منه بخلقه، وطبقاً لرعايته وعنايته الأبدية بهم، قد اختار أن يخلق عالمنا هذا من بين عوالم أخرى عدة. فإذا سألناه عن مبرر وجود الشر والألم والموت وسائر الشرور والمنغصات في حياتنا الدنيا، قالت لنا نظريته في (العدل الإلهي) إن وجود الشر ضروري لوجود الخير، ولولا الظلام ما عُرف النور، وعنايته سبحانه وحكمته قد اختارت لنا أن يكون هذا العالم الذي نعيش فيه هو أبدع عالم يمكن تخيّله.
كان ليبنتز، على قدر علمي، هو من الأوائل الذين قالوا بهذا في تاريخ الفلسفة، وربما شاركه الرأي بصيغ أخرى بعض أهل التصوف في الشرق أو الغرب، وفي القديم أو الحديث، لكن الذين سخروا من فيلسوفنا أكثر من أن يحصيهم العد، ومنهم الفيلسوف الفرنسي ورمز عصر التنوير فولتير (ت 1778)، إذ صور في روايته (كانديد) شخصية رجل بائس تلمّ به المحن على اختلافها، ولا يكاد يخرج من مصيبة حتى يقع في أخرى (جُدع أنفه وبترت ساقه، ونجا بأعجوبة من زلزال لشبونة الشهير)، ولكنه لا يلبث أن يقف على قدميه يقلب عينيه في السماء، وهو يلهج بدعائه ويصيح بتفاؤله الراسخ: (مع ذلك فكل شيء على ما يرام! ليس في الإمكان أبدع مما كان!).
إن الإنسان بطبعه حيوان غاضب وساخط ومحتجّ، ولو كفّ عن قول (لا) لكلّ ما يشوّه الإنسان والحياة والعالم، لكفّ عن وجوده نفسه وتخلّى عن مسؤوليته عن تطوير واقعه وتغييره وترسيخ شأن الحق والخير والجمال فيه. ولو أن كل واحد منا وضع في عقله وقلبه وأمام عينيه أن (لا شيء في واقعي وحياتي على ما يرام)، وبذل كل ما في وسعه لكي يتغير شيء مما حوله أو أمامه أو وراءه أو في نفسه ونفوس الآخرين، فربما يتحقّق (المستحيل الممكن) ويستطيع أن يقول ونقول معه ونحن راضون بعض الرضا: (نعم.. هناك على الأقل شيء على ما يرام).