خارج مدى الأمل

حسين خليفة:

العدالة الاجتماعية مفردة تحمل معنى عاماً يستخدمها الإسلامي والقومي والشيوعي والليبرالي بمفهوم خاص لكل جماعة، فلكلٍّ منهم تفسيره الخاص لها نظرية وتطبيقاً، وبالتالي لا يمكن الحصول على تعريف جامع مانع لهذه العبارة، وربما كان هذا الإجماع عليها من هذه الإيديولوجيات والاتجاهات الفكرية_ ولو لفظاً_ هو ما دفع الأمم المتحدة لتحديد يوم عالمي لها، على عادة المنظمات الدولية في اعتماد المصطلحات والعبارات التي يوافق عليها الجميع، لكن كلّاص منهم يفسّرها حسب رؤيته ومصلحته، أي العبارات حمّالة الأوجه، وكلنا نتذكّر مشكلة عدم وضع (ال) التعريف لكلمة (أراضي) في النسخة الإنكليزية من القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، وهو ما رآه الكثيرون لغماً مقصوداً في القرار، وهو في كل الأحوال ليس غلطة مطبعية بالتأكيد، فقد تضمّن المطالبة بـ(انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من (أراضٍ) احتُلَّت في النزاع الأخير) والمقصود عدوان حزيران 1967، وما زالت إسرائيل تتمسّك به، فغياب (ال) التعريف يمكن أن يعني انسحابها ولو من قرية واحدة في الضفة الغربية أو الجولان، بينما وجودها يعطي القرار صفة الشمول للأراضي المحتلة.

بعد هذا الاستطراد الطويل نسبياً سنحاول إيجاد صيغة لمعرفة ماهية العدالة الاجتماعية ثم تعاريفها المختلفة باختصار، ومن خلال هذه التحديدات سنرى حصة بلادنا (المجهرية) منها وفي الوقت نفسه النفاق الدولي حولها، ذلك أن كل ما حدث خلال التاريخ هو ابتلاع الحيتان للأسماك الصغيرة وتحكّم الأقوياء بالضعفاء، أي وباختصار هو (عالم ليس لنا)، العبارة التي وضعها الكاتب الشهيد غسان كنفاني عنوانا لرواية له، وتصلح عنواناً لتاريخ العالمين القديم والحديث.

منظمة الأمم المتحدة عرّفت العدالة الاجتماعية بأنها (المساواة في الحقوق بين جميع الشعوب، وإتاحة الفرصة لجميع البشر من دون تمييز للاستفادة من التقدم الاقتصادي والاجتماعي في جميع أنحاء العالم).

المعاجم السياسية الكبرى أيضاً عرّفتها بتعاريف متقاربة، فمعجم أكسفورد البريطاني يقول بأنها (التوزيع العادل لكل من (الثروة، الفرص، الامتيازات) في المجتمع)، بينما يعرِّفها القاموس السياسي الفرنسي بأنها (المبدأ الأخلاقي والسياسي الذي يسعى إلى المساواة في الحقوق والتضامن الجماعي، كما يضمن التوزيع العادل والمنصف للثروة المادية بين مختلف أفراد المجتمع).

لا يتسع المقام هنا لبيان تاريخ المصطلح وتطوره من مرحلة تاريخية إلى أخرى، لكن يمكننا استعراض المحطّات الأهم لطرحها وتداولها، مع قيام الثورة الفرنسية عام 1789 بشعاراتها الثلاثة: حرية، مساواة، إخاء، أصبحت فكرة العدالة مطروحة بقوة عبر إلغاء الامتيازات الممنوحة لطبقات معينة ولرجال الدين.

وكانت الأديان السماوية قد طرحتها في أدبياتها بشكل موارب يقوم على فكرة العدالة الإلهية التي ستتحقّق في الحياة الأخرى، ممّا يوجب على المظلومين والبؤساء أن ينتظروا حقّهم من الرب الذي سيحاسب الجميع بعد القيامة ويعيد إلى كل ذي حقٍّ حقّه، وبانتظار ذلك صاغ رجال الدين تشريعات مُستمدّة من كتبهم المقدّسة تدوس على معظم حقوق الإنسان وحريته بقوة المقدّس غير القابل للنقاش، بينما كان الإنجاز الأكبر للثورة الفرنسية هو إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أي فصل الدين عن الدولة، إضافة إلى محاربة أشكال العبودية الإقطاعية والرقّ والتمييز العنصري والعرقي والجنسي.

ثم جاءت الماركسية بفكرها الجدلي فاعتمدت مفهوم الاشتراكية كحامل للعدالة الاجتماعية، وركّزت على أن توزيع الثروة الاجتماعية على المنتجين هو المدخل الأهم لتحقيق العدالة، فما هي قيمة صوت مواطن فقير جائع محروم، بل ما هي إمكاناته للتعبير عن نفسه أصلاً أمام حيتان يملكون المال والسلطة؟

لكنها انحدرت في التطبيق بعد سبعين عاماً من الثورة البلشفية إلى حكم أقليّة بيروقراطية واستبداد وتفرّد وجمود في الفكر والاقتصاد أدّى إلى انهيار التجربة، ولعلّها تكون بداية جديدة للفكر الماركسي لمراجعة بديهياته على ضوء جدل ماركس وفلسفته الثورية.

بعد كل هذا الاستعراض لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لنرى أن البشرية رغم كل التطور الذي حقّقته في حقول الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا ما زالت أسيرة اللامساواة وغياب العدالة أو حضورها الخجول، ما زالت شعوب كثيرة من الجنوب الفقير تئنُّ تحت وطأة الجوع والجهل والحرمان والحروب العبثية، بينما ينعم الشمال الغني برفاهية وعدالة نسبية واستقرار اقتصادي واجتماعي، ومرد هذا الاستقرار والرخاء هو ذاك الحرمان والفقر، أو أنهما مترابطان ومتلازمان، فـ(ما اغتنى غني إلّا بفقر فقير).

أما في بلادنا فقد كانت العدالة مثلومة ضائعة منذ أن تحكّمت نخب متسلّطة جاءت إلى الحكم بعد الاستقلال بانقلابات، وصادرت إرادة الناس ووعيهم وتاريخهم، وبقيت كذلك حتى وقوع الحرب السورية التي لم تبقِ أي أثر لعدالة أو حقوق إنسان كما هي عادة الحروب، إذ ليست هناك حرب جيدة بالمطلق. فزاد التفاوت الاجتماعي، والخوف، والفقر، والجوع، وأصبح الناس مهمومين بقوت يومهم، ممّا دفع بفكرة العدالة والمطالبة بها إلى الظلّ بانتظار أن تزول هذه الغمّة، وتعود البلاد إلى سكّة التطور الطبيعي بزوال الحرب وآثارها، وإعادة الإعمار الذي لن يأتي إلّا بعد الحل السياسي القائم على الحوار الحر والمتساوي بين جميع السوريين لإقامة سورية علمانية ديمقراطية تقوم على دولة القانون والمؤسّسات، وحينئذٍ ستكون العدالة قد أصبحت في مرمى الأمل.

العدد 1140 - 22/01/2025