صيحة العصر.. هي المزاوجة بين العلم والمجتمع
يونس صالح:
يعتاد الناس والمجتمعات في معظم الأوقات نمطاً من التفكير، وطرق العمل، ونظاماً من المعاملات، ثم تصبح تلك الأنماط عادة بغيرها لا تستقيم الحياة لديهم، أما التفكير بشيء يخالفها أو ينقضها فذلك جريمة لا غفران لها.
وإذا كانت تلك العادات وطرق التفكير سليمة، بمعنى أنها تخضع للمحاكمة العقلية بين فترة وأخرى، فيقبلها العقل، وتستقيم مع المنطق السليم، فلا غبار على ذلك، إلا أن المشكلة هي عندما تصبح تلك الطرق من التفكير وأنماط العقل وأشكال المعاملات كأنها شيء مقدس يجب ألّا يُمس ولا يُقترب منه ولا يُنقد، وقتئذٍ يصبح الأفراد والمجتمعات التي تكبّلها تلك الطرق من التفكير أسرى العادة عاجزة عن مسايرة العصر، بل ضعيفة إلى درجة عدم القدرة على مقاومة أي مرض خارجي سياسياً كان أو اجتماعياً. وفي هذا السياق تطرح العديد من الأسئلة، فيما إذا كان علماؤنا يقدمون حلولاً لمشكلاتنا، وأعني بذلك مشكلاتنا الواقعية، لا ما يتخيلون من مشكلات.. وبمعنى آخر هل يحصل طلابنا على معلومات ومهارات معرفية نابعة من تحليل لمشكلاتنا التنموية الشاملة، أم أن أكثر ما يحصلون عليه من (علم ومعرفة) لا علاقة له بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويتمنون النهوض به؟
وإذا أردنا أن نبسط الأمور أكثر: هل يجري تقديم حلول لمشكلات السكن والطاقة والطرق والتصنيع، بحيث تكون لهذه الحلول علاقة بما نواجه من مشكلات؟ وبالمنطق نفسه نقول: هل يقدم اقتصاديونا حلولاً لما نواجهه من مشكلات اقتصادية في ضعف الزراعة، وتدني التصنيع وتبعية التجارة؟ وهل يقدم اجتماعيونا، بالمثل، حلولاً لمشكلاتنا الاجتماعية الخاصة بالمرأة، والشباب والطائفية والعرقية ومشكلات فقراء المدن والريف والمهجرين؟ وفي السياق ذاته أيضاً نتساءل: هل يقدم علماء السياسة والإدارة عندنا حلولاً لمشكلات الحكم والإدارة التي تواجهنا نحن، لا التي ننقلها من الآخرين؟
في مجموع تلك الأسئلة وأمثالها يكمن، في رأيي، أسلوب طرح المشكلة أو عرضها، وهي: هل نقدم لطلابنا في الجامعات والمدارس معلومات لها علاقة بواقع مشكلاتنا البيئية، سواء أكانت اجتماعية أم مادية؟
أميل إلى الاعتقاد بأننا، في الأغلب الأعم، لا نفعل ذلك، والأسباب كثيرة، يعرفها كل من اشتغل بالتعليم من قريب أو بعيد، أو على الأقل يعرف أغلبها، وخاصة من حاول منهم الوصول إلى فهم العملية التعليمية في بلدنا، من منطلق ابتكاري، لا من منطلق نقلي، وأهمها أن استخدامنا للمنهج العلمي مازال استخداماً غير مرن، فالعلم أساسه الشك والابتكار، والتفكير غير المألوف له تطبيقات وصور عديدة، كما أن العلم يحتاج إلى ابتكاريين، وليس إلى حرفيين من ذوي التفكير الآلي.. ولا يوجد مجال اليوم نشهد فيه صراعاً أكثر سخونة من الصراع في مجال العلم بين ثقافة الحرفيين والآليين، وثقافة المبادرين بالابتكار.
وإذا ظلت مدارسنا وجامعاتنا تصر على الحرفية والنقل بدلاً من الابتكار، انفصمت العلاقة بين ما يدرس ويقرأ، والحياة برحابتها، وتولدت علاقة آلية بين المدرسة والوظيفة، تزيدنا تخلفاً على تخلف.
إن صيحة العصر هي المزاوجة بين العلم والمجتمع، واستخدام التقنية الحديثة في كثير من المجالات، فقد تغيرت المعادلة القديمة عما كانت عليه، عندما كانت ثروة الأمم وتسلطها تعتمد على مصادرها الطبيعية، واستثمارها المالي، وأصبح الميزان يرجح بكفته بوضوح إلى الاستثمار في البشر، والمعرفة كمصدر (استراتيجي) للتقدم.. فهل نحن فاعلون؟