مصمّمون وعارضة

 لماذا لا نستعير الأفكار أو الصور والأطر من عالم إلى آخر، أو من حقل تعبيري إلى حقل آخر، إذا كانت تساعدنا في إبراز ما نريد من الأوضاع المطلوب إيضاحها، مع الاحتفاظ بقدسية المشاعر الوطنية؟ لقد برزت بلادنا (سورية) خلال السنوات الخمس الأخيرة، سيدة بلاد العالم في الحضور على مسرح الأحداث والشاشات، وانخرطنا جميعاً كما الآخرون في هذه المشهدية المرعبة، بأقوالنا وأفعالنا، وما منا من لا يرى نفسه ممثل الوطنية الصادقة، دون نسيان أن بلادنا منبت الحضارة.

كان حبنا لوطننا قاتلاً: (ومن الحب ما قتل) -هذا إذا كان بمجمله حباً-. وإذا كنا بصدد تحليل ما جرى، ويجري، فليس ذاك الذي نال نصيباً وافراً من التحليل، إنما ما يتلوه مما تم التحذير منه وقد تجاوز كل الحدود، وأهمها ثلاثة: الأول هو استخدام العنف في العلاقات الوطنية والرغبة في التغيير، الثاني، الاستعانة بالأجنبي وإفساح المجال له للتدخل في شؤون الوطن، الثالث، إيقاظ الغرائز واستحضار العصبيات القاتلة من طائفية ومذهبية ووشائجية.

لم يؤكد أي منا أنه أم الولد أو ليس أمه، فالحكاية تقول إن القاضي عندما عجز عن تبيّن الحقيقة في تنازع امرأتين على طفل كل منهما تدّعي أنها أمه، أمر بقسمته نصفين، لكل منهما نصفه، عندئذ صاحت إحداهما: أعطها الولد، فعلم أنها هي الأم الحقيقية، لأنها لم ترض أن يؤذى ولدها. أما نحن فلم نرض التوقف عن أذية وطننا، تحت ضغط المنافسة. وهنا أتكلم بحيادية فكرية، وهي موقف وليست موقفاً في الآن ذاته، ففي مواجهة إرادة الشر بالوطن تسقط الحيادية!

ما نحن بصدده الآن، أن كل ما حصل للوطن، مما لم نسمع أنه جرى في التاريخ، لم يغير فينا ما يجب أن يتغير، لإنقاذ ما تبقى من أشلاء الوطن. وهذا أمر عجيب يؤكد تكاذبنا، أو تكاذب الكثيرين منا ممن لا يزالون في الاصطفافات والخنادق دون تجدّد اعتباراتهم.

الآن، إذا كنا قد أثبتنا عجزنا جميعاً عن إيصال الوطن إلى الصورة التي يريدها كل منا له، وهو يتدهور تحت ضربات همجيتنا، بفعلنا أو بإرادة الآخرين، دون منقذ، ولكي نخرج من المأزق الذي أوقعنا أنفسنا به، لعدم جدارتنا بما ندعي من وطنية، فلا بد أن يكون المجال لآخرين، كلنا يدّعي أن تدخّلهم في شؤوننا هو من المحظورات وطنياً.

نحن اليوم في وضع العارضة (عارضة الأزياء) التي يتبارى المصممون في إلباسها الزي الذي يقدمه كل مصمم، وهي لا حول لها ولا طول إلا أن تتبختر على المسرح بما أُعِدّ لها، بعد إنهاكها لتبدو مناسبة لما صمم لها، فهي اليوم كلعبة (الباربي)، والمصممون كثر، اجتمع منهم سبعة عشر في فيينا، وسيجتمعون، للتنافس على ما يريدونه بنا.

إذا أردنا استعراض المشهد وتوقعات الأزياء المعدّة، فسنشهد، من بين المجتمعين، من لا يريد لنا أن نتغير عما كنا عليه قبل الأحداث ربما، وهذه حال إيران المستفيدة من وضعنا السابق، أو روسيا، وهي مثل إيران، وكلاهما مستفيدتان من المشهدية السورية، وذلك بأن تقول كل منهما للعالم: نحن هنا. أي لإثبات الدور الفاعل على المسرح العالمي الذي تجهد كل منهما من أجله، وقد كانت روسيا مالكة له وتريد استعادته، وكذلك تؤكد إيران نجاحها في تسويق دور يتجاوز حدودها. والمنافسة على حيازة الأدوار مشروعة في الأعراف السياسية، أي أن تؤكد كل بلاد دورها ووجودها بقدر معطيات الجيوبوليتيك التي تتمتع بها أو تحوزها لتأكيد حضورها. لكن ذلك اليوم يجري على مسرح الآخرين، الذين هم نحن.

كثيرون يلعبون لعبة تصميم الزي المستقبلي لسورية أو الاشتراك فيه، أي مستقبل سورية، ومنهم من يفعل ذلك بغباء لا سند له سوى الغرور الذي يجلبه المال الريعي الوافر، ويمثله الدور السعودي والقطري، وهما البلدان المتمسكان بالرؤية الإسلامية، مع أن الإسلام يحجر على السفيه إذا أنفق ماله بسفه، وأموالهما أموال شعوب، لا أموال حكام، إنما لا تحاسبهم شعوبهم. وهذان البلدان كان سهلاً على كل منهما أن يؤكد علاقة جيدة ودوراً جيداً بسورية قبل الأحداث وخياره فيها، ولم يكن أي منهما عاجزاً عن بناء علاقات فيها مصالح وأخوّة مع سورية. فما الذي دفع (الشقيقين) لتغذية الحرب الهمجية بكل الطاقات غير المستورة؟ لا أظن أن أياً منهما أخذته الشفقة على الشعب السوري، فأراد تحريره من الاستبداد وانتشاله إلى عالم الديمقراطية التي لا يليق لأي منهما الحديث عنها، ولا شأن لهما بها، وإذا كان هؤلاء متيمّين بالديمقراطية، فبلادهم أولى بجهودهم. بل إن في دمقرطة أي بلاد أخرى ما يؤذيهم.

وإذا كان البلدان يريدان منازلة إيران، فكان الأولى بهما منازلتها ومنافستها في مشروعها العلمي التكنولوجي الحضاري، وإذا كان لا بد من منازلتها عسكرياً، فهما بلدان جاران لإيران ويمكن أن يكون النزال حيث هما. إنما الواضح أن دورهما ليس لتعميم الشماغ والعقال والدشداشة، وهذا زيّ أجدادنا وزيّ بعضنا الذي نعتز به، إنما هو لتطويع سورية تحت الراية الأمريكية حسبما جرى توجيههما إلى ذلك. ولا بأس من إبراز ما جنته كل منهما من هذا الدور، فقد أصبحت السعودية دولة غزو وعدوان معتمدة، كما ظهرت قطر وكأنها إحدى القوى العظمى على مسرح التاريخ من خلال أدوارها الأخيرة في ليبيا وسورية، حتى أن على العرب تأكيد حقها في العضوية الدائمة بمجلس الأمن (مجمع الكبار). لا ننسى أن بعض من يحللون يرون أن سورية تعاقَب، لعدم سماحها بمرور خطوط النفط والغاز في أراضيها من السعودية وقطر إلى المتوسط، انحيازاً لإيران وروسيا المنافستين في ذلك.

كذلك تركيا لم تكن بعلاقتها المميزة مع سورية قبل الأحداث، عاجزة عن تحقيق مكاسب من بلادنا، فما الذي يدفعها لتصميم وضع جديد لها، مع الشك في إرادتها دمقرطة سورية، التي قد تجلب لها خسارة لا ربحاً لو حصلت؟ ولا أظن أن شفقة مفاجئة حلت بها لانتشال سورية من الفقر مثلاً، فلم يُعرف منها يوماً العطف على سورية وهي التي اغتصبت أرضها.

وإذا كانت تركيا ليست كالسعودية وقطر أو الأردن مثلاً، فهي تلعب لمصلحتها المشتركة مع الآخرين، باعتبارها دولة أطلسية تدور في الفلك الأمريكي. بل إن من يطّلع على علاقة سورية بتركيا تاريخياً، وبعد انتهاء الاستعمار التركي العثماني، سيجد أن تركيا لم تشبع مما استولت عليه من الأراضي السورية بمساعدة فرنسا وغيرها، بعد أن استولت على كيليكيا 18 ألف كيلو متر مربع، ثم على لواء إسكندرون، وأزاحت الحدود لصالحها مرات عديدة لتضم مساحات أقل بالتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي، وهجّرت الأكراد الذين يزعجونها إلى شمال شرق سورية حتى أصبحت هي بلادهم، علماً أن اتفاقية لوزان 1923 تؤكد أن مساحة كردستان وهي 410 آلاف كيلو متر مربع، ليس منها متر واحد في سورية، كما يؤكد محمد جمال باروت في كتابه (التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية) -ص،190 ويؤكد ذلك خرائط عصبة الأمم عام 1925 حسبما يورد باروت (ص 798)  نقلاً عن وثائق. والوضع الجديد للأكراد، كما يؤكد باروت، صُنع بعد ذلك، وقد كان الأكراد قبل ذلك يعيشون في مناطق متفرقة من سورية كمواطنين سوريين على أرض سورية، لكن ليس على ما يسمى الآن (كردستان سورية).

ما يمكن تأكيده أن الطمع التركي وشهية تركيا، مفتوحة إلى اليوم، بلا حدود، لقضم كل سنتمتر ممكن من الأراضي السورية، وهي تنشط من أجل ذلك تحت مسميات مثل المناطق العازلة، وتأتي بالعناصر التركية حتى من الصين (الويغور) ليستوطنوا شمال سورية، وهي في فيينا ترغب في إلباس سورية الثوب الذي يظهر عليه العلم التركي واضحاً، وتسعى مع الإرهابيين لاستنزاف آخر برميل نفط سورية.

العراق من دول الجوار يعاني ما تعانيه سورية ويتعرض لسيناريوهات مشابهة، ويبدو الأردن بدور هلامي كما هو مرسوم له تاريخياً، وهو ممن تُصمّم الأزياء له في الغرب ويلبسها طائعاً، بالرغم من التعبير المنتفخ عن دور منتفخ، ولبنان لا أمل له في أن يقرر شؤونه بإرادة وطنية، فكيف يقرر شؤون غيره وهو مفتوح على أدوار متناقضة، وجاهز ليلبس ما يصممه الآخرون له.

الأدوار الأوربية يبدو أبرزها الفرنسي الذي لا يخفي لهفته لاسترجاع واقع عشرينيات القرن العشرين متعاوناً مع تركيا وغيرها، وربما يقود ذلك حلم بسايكس بيكو جديدة، عبّر عنه رئيس استخباراتها الذي أعلن أن خريطة الشرق العربي (سورية والعراق) لن تعود كما كانت قبل الأحداث فيها، وربما كانت المشاريع معدّة لتفتيت جديد للمنطقة، ولا نستغرب قذارة الدور الفرنسي البريطاني في ذلك.

كل التصميمات المعدّة للزي الذي ستظهر به سورية المستقبلية، يجب أن يرفرف العلم الأمريكي في أعلاها، كما تحلم وتخطط الأطماع الأمريكية وما يعرف عنها من أنها طامعة في ألا يخرج أي شبر في العالم من تحت هيمنتها، حين تقدر، وإن بدا هذا الدور يتآكل في سورية.

لا شيء خارج الشهية الأمريكية وتوجيه أمريكا للاعبين لمصلحتها في الساحة السورية، وهم مضطرون بحكم تبعيتهم لخدمة مصالحها الضامنة لمصالح حكامهم والامتثال لهذا الدور، الذي تظهر قوته في العالم من خلال ذلك. وإذا كان المصممون، من اجتمع في فيينا ومن سيجتمع أو لن يتاح له الاجتماع، حالمين بالحصول على مكاسب من ذلك، بإخفاء لمساتهم على المشهد (الزي)، فإن اللاعب مقروء الدور، والمصمم المتلهف الذي تخدمه كل جهود الآخرين، هو إسرائيل، العدو الذي لا عدو قبله، فهي إضافة إلى الأطماع التي تحلم في تحقيقها على الأرض، من الابتلاع النهائي للجولان إلى التمدد نحو غيره، فإنها الكاسبة الأساسية الراغبة في استمرار الحرب التي تحطم سورية (بل وغير سورية من دول المنطقة) أكثر وأكثر كل يوم، فما تحلم به هو أن ترى من يواجهونها محطمين إلى الدرجة التي تجعلهم غير قادرين على أداء دور فاعل في مواجهتها خلال مستقبل غير قصير الأمد، وتجتهد في القيام بهذا الدور، ونحن نقوم به بعمى مطلق.

عند التأكد من أننا أصحاب الحق وأن البلاد بلادنا، نموت فداء لها، ولا نسمح بالمساس بها، ونحن نصمم لها ما يناسبها من أزياء مستقبلية، فإننا نعبر عن حلم جميل قد يكون صادقاً عند أغلبنا، لكن لو كان باستطاعتنا أن نمنع الآخرين من إملاء إرادتهم علينا. ولو كان ذلك موقفنا الصادق جميعاً، ما تركنا الآخرين يفعلون بنا، ولا شاركناهم أو كنا أدواتهم لتحقيق مآربهم. بل كان أولى بنا ألا نغرق بهذه الحرب التي استجدينا فيها الآخرين، وكان أولى بنا ألا ندمر وطننا وألا نلجأ إلى العنف في حراكنا أو محاولة انتزاع الحصص الوطنية لعصبياتنا.

الحقيقة تكمن خارج ما نفعله من أفكار ومطامح، لكننا لا نقدر على إبداء غير هذا الموقف، بحكم الحلم والانتماء، ولا يليق بنا أن نعلن غيره، مهما كانت الحقائق مغايرة، هنا يجب أن نفكر في التفاصيل والرتوش التي يمكن أن نضيفها إلى الزي الذي سنظهر به حين تنجلي كربنا جزئياً، لأن انفراجها النهائي قد يكون بعيداً. عندئذ يمكن أن نتخلى عما جرى تفصيله لنا وإلباسنا إياه. ولا بأس من التفكير فيما نقدر أو لا نقدر عليه الآن، لعلنا نقدر غداً، وكثير من التفكير المنطقي هو من غير المقدور، أو من غير المستحب التصريح به، ونكون في موقع اللاوطنية حين لا ننخرط في التفكير بكل الاحتمالات والتفاصيل، وإن لم يكن هذا بمثابة الحوار المعلن، فليكن بمثابة المونولوجات الداخلية، فلعلها تنفّس من كربنا.

العدد 1140 - 22/01/2025