لماذا كان ماركـس محقاً؟ (40)

 يروِّج الماركسيون لفكرة العمل السياسي العنيف، وهم يرفضون طريق التعقّل المفضي إلى إصلاحات مرحلية معتدلة، ويؤيّدون فوضى الثورة الدموية. فعصابة صغيرة من المنتفضين تعصى وتُسقط النظام وتُجبر الأغلبية على الرضوخ لإرادتها. هذا واحد من الأسباب العديدة التي تجعل الماركسية والديمقراطية في حالة احتراب. وبما أن الماركسيين ينظرون إلى الأخلاق على أنها مجرّد إيديولوجيا، فإنهم لا يكترثون كثيراً بالويلات التي تُلحقها سياستُهم بالجماهير. فالغاية تبرر الوسيلة، بغض النظر عن عدد الأرواح التي تُزهق لذلك.

تثير فكرة الثورة لدينا صوراً من العنف والفوضى، وبذلك تكون الثورة نقيض الإصلاحات الاجتماعية التي نتصوّر أنها تحصل بشكل سلمي ومعتدل وخطوة خطوة. لكن هذا النقيض غير صحيح. فقد كانت عدة إصلاحات كلَّ شيء ماعدا أن تكون سلمية. لنتذكَّر مثلاً حركة حقوق المواطن في الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن إطلاقاً ثوريّة، لكنها انطبعت بطابع الاضطهاد والموت والمداهمات العنيفة والإعدامات دون محاكم. وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أفضت كلُّ محاولةٍ لإصلاحات ليبراليّة إلى نزاعات اجتماعية هائلة في الدول الواقعة تحت الاستعمار في أمريكا اللاتينية.

وعلى العكس، كانت عدة ثورات سلمية نسبيّاً. يمكن للثورات أن تكون سلمية أو عنيفة. ففي انتفاضة عيد الفصح في دبلن عام 1916 التي جلبت لإيرلندا الاستقلال الجزئي، لم يسقط سوى عدد قليل من القتلى. وفي الثورة البلشفية عام 1917 لم تجرِ دماء كثيرة نسبياً. وبالفعل، لم تُطلق رصاصة واحدة عند استلام مواقع السلطة الهامة في موسكو، فقد استطاع الثوار وفق إسحاق دويتشر: (إبعاد الحكومة دون أية عوائق تُذكر). كان دعم الشعب البسيط للثوار ساحقاً. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي بعد أكثر من سبعين سنة، وعندما تفككت تلك الدولة العملاقة بتاريخها المفعم بالنزاعات المريرة، حصل ذلك من دون إراقة دماء أكثر مما أريق أيام تأسيسها.

بعد نجاح الثورة البلشفية أتت بالفعل الحرب الأهلية مباشرة، لكن ذلك حصل لأن قواتٍ مسلحة يمينية وغزاة أجانب انقضّوا بقسوة على النظام الاجتماعي الجديد، فقد دعمت قوّات إفرنسية وبريطانية الجيش الأبيض المعادي للثورة بكل ما تستطيع.

بالنسبة للماركسية، لا يهم درجة العنف التي قد تتصف بها الثورة، أو حتى شموليّة التغيير. فعندما استيقظت روسيا صباح نجاح  الثورة البلشفية، لم تكن جميع علاقات السوق قد أُلغيت ولم تكن كامل الصناعة قد أمِّمت، بل على العكس تماماً، فقد بقيت الملكية الخاصة وعلاقات السوق قائمة خلال فترة لابأس بها بعد استلام السلطة من قبل البلاشفة الذين باشروا بعد ذلك تدريجيّاً بإلغائها. وبطريقةٍ مماثلة عامل الجناح اليساري  في الحزب الفلاحين، ولم يكن هناك أي حديث عن تشكيل تعاونيّات إجباريّة، بل حصلت هذه العملية تدريجيّاً وبالاتفاق المشترك.

تحضِّر الثورات نفسها عادة قبل فترات طويلة وتحتاج إلى قرون كي تحقق أهدافها، فالطبقة البرجوازية في أوربا لم تُلغ الإقطاع بين ليلة وضحاها.. يتمّ استلامُ السلطة بسرعة، لكن تغيير العادات والمؤسسات والمواقف في مجتمعٍ ما يحتاج إلى زمنٍ أطول بكثير. من الممكن تأميم مصنع ما بقرار حكومي واحد، لكن هذا القرار لا يستطيع وحده حثّ الناس على أن يشعروا وأن يتصرّفوا بشكل مغاير لما كان عليه أجدادُهم. فهذا يحتاج إلى عملية طويلة من التربية والتغيير الثقافي.

من يشكّ في أن مثل هذا التغيير ممكن، عليه ألا يذهب بعيداً كي يقتنع بالعكس.. فها نحن مواطنو بريطانيا الحديثة نتاجُ ثورةٍ طويلة وصلت إلى ذروتها في القرن الثامن عشر، ومن علاماتها المميَّزة أن أغلبيّتنا لم تعد تعي ذلك. تمحو الثوراتُ الناجحة آثارها بشكل كامل. فهي تصل بذلك إلى أنَّ الوضع الذي كانت تتوخّى تحقيقه، قد حصل بشكل طبيعي تماماً. وهذا يعني أن الثورة تشبهُ، إلى حدٍّ ما، عملية الولادة. فنحن نعيش حياتنا بشراً (عاديين)، لأننا نسينا آلام ولادتنا ومصاعبها. فالأصولُ تسبّب الصدمات النفسية، سواء تعلق الأمر بأشخاص أم بدولٍ سياسية.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1140 - 22/01/2025