كان يا ما كان!
محمود هلال:
كانت دمشق تعدّ من أرخص عواصم العالم للمعيشة، لكن حسب الخبراء ودراسات المهتمين بالشأن الاقتصادي ومعطياتهم (إن أخفض أجور في العالم هي في سورية). لذا يمكن اعتبار المعيشة في سورية رخيصة مقارنة مع دول الجوار وليس بمستوى دخل الفرد فيها، وهذه نقطة هامة، فمتوسط الدخل في دول الجوار يقارب 1000 دولار شهرياً، بينما في سورية يبلغ نحو 100 دولار، أو أقل خاصة بعد الارتفاع الكبير في سعر الصرف، مما سبب زيادة على معظم أسعار السلع الاستهلاكية.
لقد أصبحت الهوة كبيرة جداً بين الرواتب والأجور والأسعار، كما أن الزيادة الأخيرة الـ20 ألف ليرة سورية على رواتب الموظفين والمتقاعدين ابتلعها التجار قبل أن يستلمها أصحابها، فضلاً بالقسم الكبير الذي اقتطع منها ضريبة دخل وتأمينات ورسوم نقابية وغيرها!!
كل ذلك يدفعنا للتساؤل: كيف لهؤلاء أصحاب الدخل المحدود، في ظل موجة الغلاء وهبّة الأسعار التصاعدية التي نشهدها اليوم، أن يتدبروا أمورهم المعيشية والحياتية براتب قليل كهذا؟ في الوقت الذي أصبحت فيه أصغر أسرة تحتاج إلى ضعفي هذا الرقم أو أكثر حتى تستطيع أن تكمل الشهر؟ قد يقول قائل: لا أحد يعيش على راتب واحد فقط، فمعظم العاملين بأجر يعملون عملاً ثانياً. ونقول: هذا صحيح، ولكن هؤلاء يعملون لا (فرفشة) ولا ترفاً أو حباً بجمع الأموال أو لتكديسها أو إيداعها في المصارف، بل يعملون مرغمين على ذلك ليوازنوا بين دخولهم ومتطلبات الحياة الصعبة. يعملون على حساب صحتهم، وعلى حساب راحتهم، يعملون على حساب الجلوس مع أسرهم وأبنائهم، وعلى حساب القيام بواجباتهم الثقافية كالذهاب إلى السينما والمسرح ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف والكتب وغيرها، وعلى حساب القيام بواجباتهم الاجتماعية بزيارة الأهل والأصدقاء ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، يعملون لكيلا يتحولوا إلى لصوص ومرتشين وفاسدين في وظائفهم، ولكي يبقوا شرفاء محافظين على كراماتهم في نهاية العمر، ولكيلا يمدّوا أيديهم لأحد أو يتحولوا إلى (شحادين) في الطرقات وعلى أبواب الجوامع والكنائس وغيرها.
وهناك الكثير من العاملين بالدولة يبدؤون بالاستدانة والاستلاف على الراتب من بداية الشهر، والسؤال: ماذا يفعل هؤلاء بأنفسهم إذا لم يكن عندهم عمل ثان خارج أوقات الدوام الرسمي؟ هل يفتحون أفواههم للهواء وينتظرون؟
(كان يا ما كان).. كان الراتب في سبعينيات القرن الماضي لحملة الشهادة الجامعية 375 ليرة سورية، وللثانوية 210 ليرات سورية، وللإعدادية 180 ليرة سورية، وكان يكفي العامل ويزيد، ويستطيع أن يدخر منه لشراء بيت أو سيارة وكل ما يحتاج إليه، أما الآن مع تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور، فلو فكّر العامل بادخار كامل راتبه لاحتاج إلى عقود.
بالمختصر يمكن القول إن العاملين اليوم محاصرون بلقمة عيشهم ويضيق الخناق عليهم أكثر فأكثر! فليكن هناك قليل من الرحمة في القلوب، ويكفي هؤلاء ما هم فيه من فقر وجوع وشقاء! لقد تحمّل المواطن السوري عبء حرب لتسع سنوات، فلتعمل الحكومة على كبح ارتفاع الأسعار وضبط الأسواق، كي تحمي المواطن من جشع التجار ولعبة الدولار، وتعفي الراتب من ضريبة الدخل، وبذلك سيكون هناك زيادة حقيقية على الرواتب والأجوروحياة كريمة للمواطن!
mah.hlal@gmail.com