قراءة في مسرحيته (المقطر الأول) تولستوي والمسرح وشياطين العصر

شهر ليون تولستوي برواياته وقصصه التي قرأ من خلالها التحولات الكبيرة في القرن التاسع عشر، والتي مهّدت للتغيرات العاصفة في قرننا هذا. فقد سجل في (حرب وسلم) و(أنا كارينين) و(البعث) و(قصص القوزاق) مختلف المؤثرات التي أحاطت بالشخصية الروسية فصقلتها، ونقلتها من الضعف إلى الصلابة، ومن الاستكانة والتردد إلى الإقدام والحزم، ومن نوازع الشر والانحلال إلى مشاعر النبل والمحبة والوطنية.

ولم يُعرف تولستوي على أنه مسرحي، رغم كتابته عدداً من المسرحيات لم يلقَ بعضها استحسان النقاد، بدأها بمسرحيتي (العدمي) و(أسرة موبوءة) عام 1863 ثم توقف طويلاً عن الكتابة للمسرح بسبب ملاحظات أوستروفسكي على المسرحيتين. وبعد أكثر من عقدين كتب مسرحيات (المقطر الأول – والإقطاعي الذي افتقر – وسلطان الظلمات) عام 1886 و(ثمار الحضارة) عام 1889 و(بطرس العشار) عام 1894 و(الجثة الحية، والنور يسطع في الظلام) بين عامي 1900-1904 و(كل الفضائل تأتي منها) عام 1910 وجاءت مسرحياته الأخيرة أكثر تماسكاً، ومثلت خارج روسيا، ومنع عرض بعضها بسبب نقدها اللاذع لمظاهر الفساد والانحلال.

ومسرحية (المقطر الأول) تستحق أن تتوقف عندها، فقد مُثِّلت على مسرح شعبي في بطرسبورغ، ثم أوقفتها الرقابة عام 1888 ولم تعد طباعتها في روسيا السوفييتية  سوى عام 1926 وفكرة المسرحية تستند إلى مقولة للسيد المسيح تؤكد صعوبة دخول الأغنياء إلى الجنة، وتظهر أن الغنى الفاحش مقرون بالشر.

تتألف المسرحية من ستة فصول، وشخصياتها فلاح وأسرته، وشيوخ القرية وفتيان وفتيات، وإبليس رئيس الشياطين، وبعض عماله وجنده.

تخفق محاولة الشيطان في الفصل الأول إجبار الفلاح على الابتهال إليه، بدلاً من الابتهال إلى الله، بعد أن سرق لقمة خبزه، ويتعرض للجلد من قبل إبليس، الذي ينجح بإحصاء من خضعوا له من الإقطاعيين والقضاة والنساء والموظفين الفاسدين الذين لقبهم أشباه الشياطين، لأنهم يعذبون البشر أفضل من الشياطين، مئات الألوف باتوا تحت رحمة إبليس، ولم يفلح في إخضاع فلاح واحد، وفي الفصل الثالث يلجأ الشيطان المكلف بإفساد الفلاحين إلى وسيلة جديدة، يتخفى بهيئة عامل ويشتغل عند الفلاح باسم يوتاب، فتزدهر  غلال القمح، وفي الفصل الرابع يقطر يوتاب خمراً ويسقي الفلاح وامرأته وابنته وأمه، فينتشون ويرقصون، ويذهل الفلاح لبراعة يوتاب، الذي تعلم كل هذه الأشياء بالسفر، ويحضر إبليس ليشهد تغير سلوك الفلاح، إذ كان يضرب امرأته من أجل كأس خمر أريقت بالرغم منها، ويشهد نفاق الشيوخ أمام الفلاح، فيقول إبليس لعامله: (إذا بدؤوا يكذبون على هذا النحو فهم جميعاً لنا)، ويدهش إبليس لأن الفلاح أصبح شرساً، إذ يضرب الشيوخ الذين قدموا لتسوية خلاف حول الأرض، فيقول يوتاب الشيطان المتخفي لمعلمه (دم الذئب يجري في عروقهم)، ونزعة الشر كامنة في الإنسان، والمهم إيقاظها (عندما جاءه من القمح الكثير تحرك فيه دم الثعلب والذئب والخنزير، هذا الدم كان فيه منذ الأزل ولكنه لم يملك إمكان الظهور).

قدم تولستوي عملاً جسوراً موجهاً للشعب، والفلاحين الذين أحبهم، ووزع عليهم أراضي قريته ياسنايا بوليانا، فقد شهد ظلم الإقطاعيين وفساد القضاة والموظفين، وانحلال هذه القلة المغتنية على حساب كثرة تطحنها الفاقة من فلاحين وأقنان ومشردين وبغايا. وبيّن أن الإفساد نهج يلجأ إليه المتنفذون لحماية امتيازاتهم وإضعاف خصومهم المحتملين، وكشف سطوة سلطة المال، والتملك الذي يعمي ويبلّد المشاعر الإنسانية، ويثير نوازع الشر، إنها اللوحة نفسها بعد قرن ونيف، فالمؤسسات المالية تتحكم بمقدرات الشعوب وتنشر الفقر وتعولمه.

رسم تولستوي الشخصية الفلاحية كما عرفها عن كثب، في بساطتها وطيبتها ونقائها ومحافظتها، فكانت الشخصيات البشرية واقعية، تأملها في الحقل والمنزل، وقدمها لنا دون مبالغات أو زخارف، وأنطقها بلغتهم، معتمداً على الصورة المختزنة في الذاكرة الشعبية لإبليس وشياطينه، وكأنه يريد ان يقول: (إن سدنة جهنم هم هؤلاء الطامعون المستبدون المقيمون على مقربة منا، ومن غير المتوقع أن يكون أولئلك الشياطين أسوأ من هؤلاء الفاسدين.

لغة تولستوي عذبة مكثفة، وتعابيره واضحة لا تزويق فيها، وحواره مشحون بالتوتر والتوقعات المرعبة، ونصه مفتوح على حلم ترتقي فيه المشاعر الإنسانية وتعمر القلوب بالحب والرغبة في التضحية والعطاء، وقد عمل على ترجمة هذا الحلم واقعياً واستثار غضب القيصر والكنيسة، واتهم بالكفر، واحتمل بصبر نوبات غضب الحكومة ونوبات غضب زوجته، وظلَّ – رغم كل ذلك التكفير والحصار – يتأمل الندوب في وجه روسيا مثل صوفي شرقي، ويبشر مثل حواري بقيم المحبة والتسامح.

وروسيا اليوم بعد تسعة عقود من وفاة ليون تولستوي مازالت تستذكر إبداعاته الفذة، واستقامته ونبله، وهو الذي نذر نفسه ليكنس قوى الاستغلال والظلم عن أرضها. وروسيا اليوم أحوج إلى التأمل العميق في تراث عمالقة الأدب والفكر، مثلما فعلت في مطلع القرن، ومهدت لتلك التغيرات الكبرى التي طبعت معظم عقود القرن بطابعها.

ومسرحية (المقطر الأول) وسائر مسرحيات تولستوي لوحات حية لأناس روسيا في شكّهم وإيمانهم وترددهم وإقدامهم وتمردهم وخضوعهم وفوضاهم وانتظامهم، إنها كالحياة، دائمة التغيير والحركة والتجدد.

 

(*) المسرحية نشرتها وزارة الثقافة بدمشق عام 1989 ضمن مجموعة مسرحيات تولستوي، ترجمها إلى العربية الأستاذ صياح الجهيم، وقدم لها ألكسندر سولوفييف.

العدد 1140 - 22/01/2025