في المبادرة الروسية والاستجابة السورية

ينظر باهتمام وخصوصية أيضاً إلى الأجواء المشحونة التي سادت منطقتنا طوال الأسبوعين الماضيين، وبخاصة مسألة التهديد الأمريكي- المنفرد بتدخل عسكري و(محدود)، أو بضربة عسكرية سريعة تهدف ظاهرياً إلى (تدمير) السلاح الكيميائي السوري، وعملياً إلى إحداث تغيير عسكري ما في موازين القوى في سورية. وذلك بعد مطالبات عدة من (المعارضات) الخارجية والمجموعات والعصابات المسلحة، بضرورة تنفيذها قبل الدخول في العملية السياسية حول كيفية إنهاء الأزمة في سورية. وينظر باهتمام أيضاً إلى المبادرة الروسية التي عبرت عنها العديد من المحطات واللقاءات والقمم التي استبقت، أو تزامنت أيضاً مع عقد اجتماع وزيرَيْ الخارجية الروسي – الأمريكي الأخير، الذي أشار فيه إلى تراجع حالة التهديد والوعيد الأمريكي، ونحو حل متكامل للأزمة في سورية، ربما من جميع جوانبها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن لقاء وزيري الخارجية الروسي – الأمريكي، لم يأت معزولاً عن جملة من التطورات المحلية والإقليمية والدولية أيضاً.. بدءاً من الإنجازات الميدانية السورية المتتابعة، وبضمنها الخسارات الرسمية المعلن عنها للمجموعات والعصابات المسلحة السورية، مروراً بحجم الزحف الشعبي – الحزبي – البرلماني وحتى الحكومي ضد أية ضربة عسكرية أمريكية (محدودة أو جزئية) ضد سورية، وبخاصة من حلفاء واشنطن وأنصارها في الاتحاد الأوربي أو في حلف شمال الأطلسي، مروراً بالمواقف المتشددة للتوجه الإيجابي الإقليمي – الدولي المطالب بالحوار والحل السياسي بوصفه الطريق الوحيد والأنجع لحل هذه الأزمة.

ونشير هنا إلى صعوبة تمرير قرار كهذا في المؤسسات الأمريكية نفسها، وبضمنها مؤسستا الكونغرس (الشيوخ والنواب)، إذ يؤكد المراقبون أن نسبة 60% من أعضائهما يعارضون هذه الخطوة الأمريكية على خطورتها وحساسيتها للمنطقة وأدواتها. كما نشير إلى حالة الاستنفار التي وضعت فيها القوات الأمريكية، وزيادة عديدها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وبضمنها البوارج الحربية الحاملة لصواريخ (كروز وتوماهوك)، المترافقة مع لغة (التهديد) و(الإنذار) الأمريكي ضد سورية، رغم المعارضات الواسعة الشعبية – البرلمانية – العسكرية من مخاطر هذه الخطوة وتداعياتها.

كما لابد من الإشارة هنا أيضاً إلى زيادة عدد السفن والبوارج الحربية الروسية في شرق المتوسط، وبضمنها سفن إنزال عسكرية ضخمة، والتصريحات الروسية حول ضرورة أمن هذه المنطقة لروسيا ومصالحها أيضاً.

هذه الأجواء على خطورتها وحساسيتها دفعت بالرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى التفكير جدياً بتبعاتها وتداعياتها محلياً وإقليمياً، وفي حدود ليست أقل دولياً. (إذ خالفت هذه الأجواء في الأسبوعين الماضيين تحديداً، ما أشاعه أوباما في جولتيه الانتخابيتين الرئاسيتين حول ضرورة التشاركية ورفض الحروب والحلول السلمية للإشكاليات التي يعانيها عالمنا)، فضلاً عن دور حلفاء واشنطن وأصدقائها وتأثيرهم، سواء في الاتحاد الأوربي أم حلف شمال الأطلسي. كما نشير إلى اجتماع قمة دول العشرين الأخيرة في مدينة سان بطرسبورغ الروسية (لينينغراد). وإلى التوجه العام أو الغالب ضد خطوة الحرب (المجزوءة أو المحدودة) أمريكياً، إلى مطالبة صف واسع من هذه الدول، وبخاصة مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا)، والدول التي أيدت مواقفها في ضرورة وقف هذه الرعونة الأمريكية وتبيان مخاطرها، وما تخللها من قمة روسية – أمريكية، وإن لم تتجاوز ال30 دقيقة، أشارت بمجموعها إلى مخاطر هذا التوجه على المنطقة وعلى شبكة العلاقات الدولية القائمة والمستقبلية أيضاً.

إذ أوعز الرئيسان الروسي والأمريكي إلى وزيري خارجيتهما، بإعادة بحث تعقيدات المنطقة، انطلاقاً من ضرورة الحوار والحل السياسي، وهذا ما يعني ببساطة بطلان مسألة التهديد أو الخيار العسكري الأمريكي المنفرد، وضرورة العودة إلى المؤسسات الدولية، التي أكد ضرورتها ودورها مرة أخرى، الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.

أوباما الذي واجه كل هذه الانتقادات الأمريكية الداخلية الشعبية – البرلمانية، وحتى العسكرية، فضلاً عن مواقف الأصدقاء والحلفاء المناوئين لسياسة القطب الواحد بشقها العسكري تحديداً، تنطبق عليه مقولة: (صعد إلى شجرة العدوان، وعليه التفكير في كيفية النزول).

وهذا ما أكده بصراحة لقاء وزيرَيْ الخارجية الروسي – الأمريكي، بأن الحل لابد أن يكون حوارياً، وأن الخيار العسكري لم يعد تطبيقه ممكناً، لا في سورية ولا في مناطق أخرى تعيش أوضاعاً مشابهة.

لقد أراح أوباما نفسه، وخلافاته الأمريكية الداخلية، على كثرتها، من استحقاقات وتبعات حرب (جزئية أو محدودة)، لا فرق في ذلك، وأراح أصدقاءه وحلفاءه، وبخاصة الذين اتخذوا موقفاً مغايراً للموقف الرئاسي الأمريكي. كما أراح هذا الموقف الأمريكي – الرئاسي، الذي أعقب قمة العشرين، والقمة الروسية – الأمريكية المنطقة من الوصول إلى شفير حرب لا تحمد عقباها، وأكد في الوقت نفسه نجاح الدبلوماسية الروسية في إبطال هذه الخطوة الأمريكية.

فالدبلوماسية الروسية أبطلت هذه الاندفاعة المنفردة أمريكياً، والمستهجنة غربياً، وأكدت مجدداً خيار الحوار والحل السياسي للأزمة في سورية. كما لاينظر هنا إلى انضمام سورية إلى منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية (سلاح الفقراء) بوصفه تنازلاً سورياً صافياً، إذ إن سورية تضاف بذلك إلى عشرات الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، باستثناء إسرائيل، وأنه يشكل مقدمة أخرى لمطالبة المجتمع الدولي بإزالة أسلحة الدمار الشامل من المنطقة، وهذا ما طالبت به سورية منذ أكثر من عقد، وكذلك إيران وغيرهما.

أما مسألة مراقبة وشروط تخزين السلاح الكيمائي السوري، وإن نظر إليه البعض بأنه تنازل ما، فإنه يندرج في سياق المطالبات السورية القديمة – الجديدة من جهة، وبأنه أبطل ذريعة هامة من ذرائع الإدارة الأمريكية المنقسمة تجاهها من جهة ثانية.. في الوقت الذي أكدت فيه سورية في طلبها هذا ضرورة التدقيق والتحقيق في حوادث كيميائية متفرقة (خان العسل/ منطقة حلب، الغوطتان الشرقية والجنوبية)، وتأكيدها عدم استخدام سورية للسلاح الكيميائي، بل استخدمته مجموعات وعصابات تحاول جر سورية إلى صراع إقليمي – دولي، عنوانه (الحرب الكيميائية)، بعد أن فشلت عملياً في الحسم الميداني- العسكري، وتعرضت وتتعرض إلى هزائم متتالية يقر بها هؤلاء أولاً، وحلفاؤهم ثانياً.

وفي هذا السياق نأمل ونود أن نرى خطوة دمشق الاستباقية بالموافقة على المبادرة الروسية (زيارة وزير خارجية سورية وليد المعلم إلى موسكو ولقاؤه نظيره الروسي)، أن تمثل خطوة باتجاه نزع فتيل (الحروب) المخطط مسبقاً لها، وفي إظهار حقيقة المجموعات والعصابات التي استخدمت السلاح الكيميائي البدائي، وبإمكانها تكرار ذلك، لاستعادة أجواء الحروب في المنطقة.

كما نأمل ونعوّل على أن تشكل هذه المبادرة الروسية، وما صاحبها من ضغط شعبي – برلماني- حكومي، أمريكي خصوصاً، ودولي عموماً، في تزايد القناعة بضرورة الحوار والحل السياسي للأزمة في سورية وخصوصيتها من جهة، وفي مواجهة الضغوط (المائعة) حتى تاريخه، على إسرائيل للالتزام بهذه الاتفاقية أيضاً (نزع أسلحة الدمار الشامل) بوصفها راهناً الدولة الإقليمية، وربما الدولة الوحيدة، التي ترفض الانصياع لهذا التوجه الدولي، وأن تستخدمه سورية وإيران وغيرها من الدول الحريصة على الاستقرار في المنطقة، بوصفها ورقة جديدة إضافية تسجل لها.

 

العدد 1140 - 22/01/2025