ثقافة الحرب

تعيدنا الأزمة السورية والأزمات الأخرى في المنطقة، إلى استعادة تنوّع الثقافات البشرية وتعدد المصطلحات. فثقافة الحرب تجمع في سلّتها نتاج هذه الحرب بكل ما فيها من قلق وخوف وقتل وتخريب وإبادة وجوع وفقر، وجميع معاول الهدم لحياة الإنسان وديمومة الدولة.

لقد تكوَّنت هذه الثقافة قبل عشرات القرون بعدَ الانتقال من المشاعية إلى الملكية الفردية، بدوافع اجتماعية ودينية وسياسية. وثقافة الحرب هي الوجه الأسود، والمقابل الضدّي لثقافة السلام التي تمثل الوجه الأبيض. والفرق بين الثقافتين له بُعد أفقي على المستوى الاجتماعي، وبُعد شاقولي على مستوى الدولة ومؤسساتها.

ولا يمكن الغوص في هذه المقالة في تاريخ هذه الثقافة وانعكاساتها على البشرية، ولكن من المفيد التذكير ببعض القذائف التي أطلقت، حينما كان قانون الإرث في أوربا ينصُّ على أن يرث الابن الأكبر عقارات والده وعبيده بعد موته ولا توزع بين أبنائه. وبسبب هذا القانون نشأت طبقة النبلاء أو (الأسياد) الذين يملكون إقطاعيات.. ورأى كثيرون من هؤلاء فرصتهم في الحملات الصليبية للحصول على أراضٍ في الشرق.

وفي التوازي تقابل ثقافة الحروب والاستعمار، ثقافة مواجهة العدوان وتحرير البلدان وتطهيرها من الاستعمار، أو ما يسمى ب(الحروب العادلة).

لقد أفرزت ثقافة الحرب، كما جاء في تاريخ الحروب، فئات انتهازية لا يهمها سوى الاغتناء السريع بزمن قصير، فأوجدت لها المنافذ للبحث في كل مشروع يحقق لها جمع المال، وجهزت سلالمها للتسلق والاتجار بقوت المواطنين. وبكلمة أخرى تخلّى هؤلاء المرتزقة عن الثقافة الوطنية، وتبنّوا ثقافة من نتاج الحرب بأدوات الأعداء.

وهناك وجه آخر أكثر نصاعة ووضوحاً واتساعاً، يمثل الجانب الإيجابي لثقافة الحرب، ويشكل النسبة العظمى من المواطنين الذين يقفون إلى جانب الجيش في خندق واحد ومواجهة العدو دفاعاً عن الوطن.. هؤلاء يحملون سلاح الثقافة الوطنية المكللة بالدم، الذين يرفعون راية الحرية والكرامة والسيادة.

هذان الوجهان المتغايران المختلفان بالشكل والمضمون، يعبران عن هذه الثقافة بلونيها الأبيض والأسود. ولم تنتج ثقافة الحروب الموت والدمار فقط، بل أنتجت أدباً متنوعاً (قصة وشعراً ورواية وفناً ومسرحاً)، عبَّر عن البطولات والتضحيات والصمود في المعارك الوطنية. ورسَّخ أدب الحرب الثقافة الوطنية كما في عشرات الحروب التي من أبرزها (الحرب العالمية الثانية). والنصف الثاني من القرن العشرين شاهد حي على انتشار أدب الحرب أو أدب المقاومة انتشاراً واسعاً، الذي ترجم إلى عشرات اللغات، وعكس واقع الحروب وبيَّن أسبابها ونتائجها وإفرازاتها المحلية والإقليمية والدولية. وكذلك أنتجت حرب تشرين التحريرية شعر المقاومة ورواية الحرب وقصص البطولات التي سطّرها الجيشان المصري والسوري، وفناً بأدوات الفنانين ورياشهم بمئات اللوحات وإقامة مئات المعارض المحلية والدولية لكشف طبيعة العدوان على شعبنا وشعوب المنطقة. وهذه الفنون المختلفة أصبحت وثائق تضاف إلى أدب الحروب وتاريخ الشعوب ونضالاتها، التي رسَّخت أساسات وقواعد الثقافة الوطنية في سورية ومصر.

وتشهد المنطقة العربية منذ عامين ونصف حرباً تتمايز عن الحروب التقليدية، وتصدير ثقافة ملوثة ب(السارين) والفكر الظلامي التكفيري، وفُرْصة للمهزومين الذين روّجوا بأقلامهم للعدوان الأمريكي والأوربي، من الذين فتحوا جيوبهم للدولار، ومن الذين حاولوا تزييف الثقافة الوطنية، لكنهم لم يحققوا أية نجاحات على جميع الأصعدة.

إن ثقافة الحرب ثقافتان: ثقافة التدمير والانتماء إلى متاريس الأعداء، وثقافة الانتصار على الأعداء والانتماء إلى الوطن.

العدد 1140 - 22/01/2025