الانتحار صرخة مساعدة واحتجاج بالجسد
ليس الانتحار هو ما يفضي دوماً الى الموت بل محاولات الانتحار هي أيضاً انتحار لكنه لم ينجح..
أيقظت حالة انتحار موظف البنك المركزي – في رميه لنفسه من الطابق الثالث من مبنى البنك في السبع بحرات – المجتمع السوري لمشكلة بدأت تظهر في أوساطه بشكل أقوى من السابق، وخاصة عند محاولات الوصول الى أسباب انتحاره التي تمحورت حول الاوضاع الاجتماعية من تهجير وضيق الوضع المادي بحسب ما تحدث زملاؤه الأقربون اليه..وعند غياب الدراسات الأكاديمية والأبحاث الاجتماعية الاستقصائية حول هذه الظاهرة التي بدأت تتكاثر في سورية لا بد من البحث في دراسات وأبحاث قدمها آخرون..
فما يهمنا هنا ازالة الستار عن هذه الجريمة بحق النفس وبحق المجتمع والتي يشترك في ارتكابها المجتمع والأسرة والحكومة، كلهم أو أحدهم على الأغلب كشريك مع الفاعل المباشر.
فما هو تاريخ الانتحار؟ تذكر (ويكيبيديا) أن معدلات الانتحار ظهرت بصورة عامة متصاعدة بانتظام خلال القرن التاسع عشر في اتهام ضمني للثورة الصناعية، وتقول الدراسة أنه لا يمكن اختزالها إلى ظاهرة نفسية أو نفسانية مرضية، فلا علاقة إحصائية بين معدل الانتحار ومؤشرات حدوث الأمراض العقلية.
أما في انتشارها بين الرجال والنساء، فتقول احدى الدراسات: أن الانتحار أكثر تواتراً لدى الرجال منه لدى النساء (أكثر بمرتين إلى ثلاث)، ولكن محاولات الانتحار منتشرة لدى النساء أكثر من الرجال بمرتين. ويزداد عدد حوادث الانتحار مع العمر (لثلثي ضحايا الانتحار عمر يزيد عن خمسة وأربعين عاماً)، ولكن محاولات الانتحار تنجز على الأغلب قبل الأربعين عاماً. ويمثل الانتحار في فرنسا 16% من مجموع وفيات المراهقين من خمسة عشر عاماً من العمر إلى عشرين (مقابل 65,1% لدى الراشدين)، أما أسباب الانتحار لدى الشباب فهي معقدة ولا تزال غير معروفة بصورة كاملة، ونجد على الغالب، لدى الشباب، إخفاقاً مدرسياً أو عاطفياً، والانعزال الوجداني (طلاب، متدربون، انتقلوا إلى مدن كبيرة)، وغياب التواصل، والإرهاق، وانشغال البال بالمستقبل والصعوبات المادية، والعدوى الذهنية، والمحاكاة، يمكن ان يكون لها دورٌ في الانتحار. أما عوامل الانتحار لدى الفئات الأكبر عمراً فهي التدهور الجسمي والعاهات، والوحدة، والصعوبات المادية، والشعور بعدم الجدوى، بل الاستبعاد من الجماعة الاجتماعية. ويؤكد إميل دوركهايم، في دراسته الانتحار (1897)، أن هذا التواتر بارتفاع معدل الانتحار يزداد طرداً مع تراخي الروابط الاجتماعية.
والسلوكيات الانتحارية يمكنها أن تكون ذات ثلاث وظائف مختلفة: فالانتحار، بالنسبة لبعض الأفراد، يكوّن وسيلة تجنب، الهروب من وضع هم عاجزون عن قبوله. وهو، بالنسبة لآخرين، يقابل الارتداد ضد الذات، ارتداد دافع عدواني لم يكن يمكنه أن يوجه ضد الغير. والانتحار بالنسبة للكثيرين، أخيراً، رسالة يائسة تعبر عن ضروب اللوم الموجهة إلى الغير على اللامبالاة.
ويعاني كثير من المنتحرين عاطفة العزلة والنبذ. وهذا هو السبب الذي من أجله تكوّنت هيئات الوقاية من الانتحار في كل أنحاء العالم على وجه التقريب، بدءاً من الأربعينيات من هذا القرن، وحددت لنفسها مهمة مفادها أن تستجيب لكل نداء هاتفي، في النهار والليل، وتصغي دون أن تطلق حكماً.. وفي بحث للانتحار تحت عنوان: (الانتحار، وظاهرة الضحيّة في عالمنا العربي) لـ (مرسلينا شعبان حسن) أكدت أن هناك حقيقة اليوم باتت تتمثّل في أنّ الظّروف الاجتماعيّة القاسية، خلال فترات الاضطراب تزداد فيها حالات الاكتئاب والانتحار. كما أنّه في المجتمعات التي تعجز عن توفير الحاجات الضروريّة لأفرادها، يخلق بالضّرورة عدداً هائلاً من الشّخصيات ذات التبعيّة له، هؤلاء الأشخاص الذين تكوّنت لديهم نتيجة لخبرات الطفولة تبعيّة فميّة، بحيث يكونون أسوأ حالاً في مثل هذه الظروف الاجتماعيّة، لعجزهم عن أن يعيشوا الاحباطات، دون أن يستجيبوا لها بطريقة اكتئابيّة. وخاصة في الدّول التي شهدت حراكاً ضدّ القمع، حيث كان الخيار بين الأمن، أو الانجرار للفوضى وبين عيش الحريّة..
ففي الأزمات التي تعصف بأيّ بلد، سواء كانت هذه الأزمات طبيعيّة أم اقتصاديّة أو سياسيّة، أو في حال الحروب، نجد أنّ هذه الأزمات تطال المتعة، فمن هنا نجد أنّ هذه المتعة التي تحفز السّياسيين، وقادة الجماعات المسلّحة، على حمل السّلاح والإمساك بيد من حديد، فإطلاق القذائف أو الصّواريخ يندرج وفق المنظور النّفسي التّحليلي في إطار المتعة القضيبيّة، وقد نجد أنّ الشّعارات السياسيّة، والدينيّة، تجيز لمنافع خاصّة، سياسيّة مالية، بحجج مختلفة مثل الدّعوة للقضاء على الشرّ، والتذرّع بالصّدق أنهم في خدمة الجميع، لذا يلاحظ أن هناك مد من الشباب يتحمّس لدعواهم، حتّى ينكشف لهم بعد فترة عدم صدق شعاراتهم، وشعارات الإخوان المسلمين في مصر خير شاهد، كذلك الأزمة التي تعاش في سوريا اليوم من عدم مصداقيّة المجلس الوطني وباقي أطياف المعارضة، خلافاً لأزمة الثقة المتجذّرة في سورية بالداخل بالوضع القائم، وان تعلّق الشّباب بالمثال الأخلاقي المبرّر لاندفاعهم، يحول بينهم وبين تقبّل هذه الحقيقة، فهم لا يدركونها إلاّ بعد فوات الأوان، وفي حال سقوط المثال الأعلى. وغياب عمليّة التّرميز أو إعادة التّنسيق، يجد الجسد لكي يستعيده لصالحه، مع وجهتيه معاً المتعة وفقدان المتعة. حيث الحدود للمتعة غير القابلة للتحقق، سوى على حساب جسده الذي يذوب، ويستهلك تدريجياً في الوقت الذي يجري انسلاخه عن الواقع الاجتماعي، بحيث لا يقدر على التكيف، فإن لم يمت يبقى أداةً في يد أجهزة الأمن، أو الجماعات الدينيّة المتطرّفة، أو يختار هو هدفه بنفسه ويندفع للموت كحتميّة نفسيّة لصراع طويل.
أما المحلّل النّفسي الألماني»فينيكل «يقول: من الأسس التي تقوم عليها نفسيّة التجمهر، أن تخف لدى الفرد حدّة الشّعور بالذّنب، عن طريق الشّعور بأن غيره يجسر على إتيان ما يؤنب ضميره هو، بارتكابه كثيراً من الفظائع، هذا الأمر هو ما يصحب الإسقاط، أي نقل نزوة العدوان في السّلوك الجماعي إلى مواقف الضحيّة. فمثلاً إذا كانت المطالب التي يفرضها القائد مبالغ فيها، وإذا منع كلّ تعبير عدواني، وإن كان غير مباشر منعاً باتاً، انقطعت الرّوابط الموجبة التي تربط الأعضاء بالقائد، لذلك يَعمد القادة المستبدون، إلى تزويد أبنائهم بضحيّة مختارة، حيث لابدّ من متصرّف لهذا العدوان و يغدو الانتحار عند الشباب وكأنه فوران، يتجلّى برفضهم للسّلطة بدءاً من السلطة الأبويّة، وكلّ رمزيّتها وطموحها لوجود مثل أعلى تذوب فيه.
ويقول أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي ان فقدان المواطن لكرامته دافع للانتحار على خطى البوعزيزي، وظاهرة الانتحار بشكل عام، تعتبر صرخة للمساعدة، للاحتجاج على مواقف معينة، وصرخة لإزالة العجز واليأس والإحباط الذي يعاني منه الناس.
فعندما انتحر البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على البطالة والظلم وأثارت العملية زوبعة في العالم العربي كله، تفاعل معه الكثيرون في المنطقة، ممن يشعرون أيضاً بالإحباط واليأس والعجز ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، فكان البوعزيزي بالنسبة لهم نوعا من المثل الأعلى والقدوة. وان حالات الانتحار، التي حدثت في مصر وغيرها، تحدث عادة أمام مواقع صانع القرار السياسي، أمام مجلس الوزراء، أو مجلس الشعب، وكأنهم يقولون: زساعدونا نحن غير سعداء وغير راضين.. إذا لم تستطيعوا مساعدتنا، سنتجه إلى اللهس. هو نوع من الهروب من المعاناة والعجز والاكتئاب.
ويؤكد عكاشة أن سيكولوجية المنتحر تختلف من شخص إلى آخر.
إن 70 في المئة من حالات الانتحار في العالم تكون نتيجة لمرض الاكتئاب والقلق، وهذا ممكن أن يكون لأسباب اقتصادية، مثل البطالة والفقر. أو لأسباب اجتماعية، مثل الظلم والقمع والقهر وإهانة كرامة الفرد. ومن الممكن أن يقدم إنسان على إنهاء حياته لأسباب نفسيه، عندما يفقد حبيبته أو شخصاً عزيزاً عليه مثلاً. لكن هناك مرضى الفصام، هؤلاء عندما ينتحرون يقدمون على ذلك لأنهم يسمعون أصواتاً تأمرهم بالانتحار. يشعرون أنهم تحت رقابة أو اضطهاد، تحدث لهم ضلالات مثل الغيرة أو الخيانة الزوجية.
ويؤكد عكاشة أنه في الطب نفسي تعتبر أي محاولة للانتحار هي صرخة للمساعدة على الجميع أن يأخذها على محمل الجد، ولا يقال إنهم يمثلون أو يهرجون، لا يصح ذلك إطلاقاً. أما الصرخة فقد وصلت لصناع القرار السياسي، تونس ، مصر ، الكويت، السعودية وغيرهم، فعندما يكون هناك كبت وإحباط شديدين وانعدام لحريات التعبير، وكبت للديمقراطية، وعندما تكون هناك حالة من الطوارئ تحكم البلاد، وعندما يكون هناك اعتقال للسجناء وتعذيب للمعتقلين، عندما تهان كرامة الإنسان ويفقد آدميته، وعندما يهان الإنسان في كبريائه بالفقر والبطالة والقمع والقهر، لاشك أن كل هذه العوامل ستؤدي إلى زيادة حالات الانتحار.
في هذه التشكيلة التي حاولنا لملمتها من خلال أبحاث متنوعة ربما وصلنا الى الأسباب التي تدفع بالشباب بشكل خاص وأفراد المجتمع بشكل عام الى الانتحار، لكن الأهم أننا تأكدنا من الدور الذي يجب أن تلعبه وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة على وجه الخصوص، وباقي الوزارات بشكل عام، في السعي لإقامة هيئات تهتم بالمواطن الذي بدأت تغلق أمامه أبواب الخلاص ليبدو الموت طريقاً سهلاً،وايجاد منافذ من خلال هواتف أو مراكز صحية نفسية وإيصالها مع مراكز الاحصاء والدراسات لتوسيع الأبحاث الوطنية الداخلية..