الحرب في البيت
كثيرةٌ هي الأفلام التي تعرَّضت للآثار السيكولوجية المدمِّرة التي أعقبت حرب الفيتنام، وما تورَّطت به أمريكا وورَّطت فيه خيرةَ شبابها بين قتيلٍ وجريحٍ ومحطَّمٍ في هذه الحرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها. ولعلَّ المُشاهِد يذكر أفلاماً مثل deer hunter (صائد الوعل)، وSaigon revolt (تمرُّد سايغون) وApocalypse now (القيامة الآن) وcoming home (العودة إلى الوطن) وسواها من الأفلام التي تركت صدى واسعاً في المجتمع الأمريكي، وخلقت احتجاجات كبيرة على السياسات الخرقاء التي تنتهجها الإدارات الأمريكية: الجمهورية والديموقراطية على حدٍّ سواء من أجل تحقيق مصالح الطُّغَم المالية والعسكرية المتحكِّمة في القرار الأمريكي.
ويأتي فيلم The war At Home (الحرب في البيت) ضمن سياق هذه الأفلام التي تُعدُّ علامةً إيجابية في سجلّ السينما الهوليودية على الرغم من ندرة هذه الإيجابيات. الفيلم من إخراج (إيميلو إستيفيز) الذي يلعب دور البطولة الرئيسي في الفيلم (الابن جيريمي)، يشاركه في البطولة: (مارتن شين) بدور (الأب بوب) و(كاتي باتس) بدور (الأم مورين) و(كيمبرلي وليام) بدور (الابنة كارين). (جيريمي) الابن شارك في حرب الفيتنام، وحاز على وسام الجدارة بالنظر إلى بلائه واستبساله، ولكنه عندما يعود من الحرب لا يستطيع التأقلم مع جوِّ أسرته ومع أفراد عائلته رغم أن الأسرة تعيش في مدينة هادئة بولاية (ألاسكا). لقد خلَّفت الحرب فيه جراحاً نفسية لم تندمل، فهو حانقٌ على أبيه (بوب) لأنه رفض أن يُقرضه مالاً ييسِّر له السفر خارج البلاد حين استُدعي للخدمة العسكرية. إنه رافضٌ للحرب من البداية، والأب يريد أن يفخر أمام الناس أنِّه أرسل ابنه إلى ميادين الشرف والبطولة ولكن! على حساب الابن نفسه.
أما الأم فهي تنظر إلى ابنها على أنه لا يزال ابن العاشرة، وعليه ألا يعارضها في مطلب ولو كان تافهاً في نظره كالحديث مع أمها جدَّته، وأن يستجيب لتعليماتها، بل لعصبيتها دون مناقشة. أما الأخت (كارين) فربما كانت الوحيدة القادرة على تفهُّم وضع أخيها (جيريمي)، وما يعانيه من صراعٍ نفسيٍّ حادٍّ، لكنَّ المشكلة أنّ أبويها لا يريدان منها أن تساعد أخاها أو تتدخل في الشأن العائلي، وهي بدورها قابلةٌ لردود الأفعال القوية مع أخيها نفسه بحيث تُفسد في أيِّ لحظة ما تبنيه من محاولات التقرُّب من أخيها ومواساته. حتى يتحول أي حوارٍ بين أفراد الأسرة إلى سوء تفاهم فجأةً، ومِن هنا يأخذ تأويلُ العبارات مجالاً واسعاً في اجتراح الخلافات والتوترات، فأيَّةُ إشارةٍ عابرةٍ نحو طعامٍ تعدُّه الأم أو تصرُّفٍ أو حركةٍ غير مقصودة من أحد أفراد الأسرة كفيلةٌ بأن تُشعل الخلاف، وتعكِّر مزاج الجميع. ربما كان الجميع مُصرّاً على عدم الاعتراف بالآثار الخطيرة لتلك الحرب القذرة، كونِها المسؤولة عن هذه الأجواء المكهرَبة، ولهذا فهم يتعامون عن سبب المشكلة الرئيسي، ويتظاهرون بالتلقائية، والممارسة العفوية، والحياة الطبيعية.
غير أنَّ مناسبةً دينيةً كعيد الشكر الذي يوليه الأمريكيون اهتماماً خاصاً لما له من جذورٍ دينية ثقافية تكشف هذا التصدُّع الخطير في الأسرة، إذ يدعو الوالدان بعضَ أقربائهما لمشاركة الأسرة احتفالَها بهذه المناسبة، وتناولِ وجبة الديك الرومي الشهية بصحبتها. وتطلب الأم من ابنها أن يرتدي ثياباً لائقةً، لكنه يصرُّ على أن يرتدي بزَّته العسكرية التي قاتل بها في فيتنام، ثم بعتكف في غرفته رغم محاولات أمه وأبيه وأخته ثنيه عن قراره. في هذه الأثناء يتوافد الضيوف، وتتعلَّل الأمُ بمرض ابنها لتبرِّر غيابه. لكنَّ (جيريمي) يفاجئ الجميعَ بنزوله من غرفته، ثم مرورِه بهم وهم متحلقون حول المائدة العامرة دون أن ينبس ببنت شفة، مكتفياً بنظراته الغريبة نحوهم في طريقه إلى خارج البيت. بالطبع ينعكس هذا الموقف على تصرُّف الأب المشحون مسبقاً ضدَّ ابنه، فيبدو متوتِّر الأعصاب غيرَ قادرٍ على التحكُّم بنفسه؛ الأمرُ الذي يدفعه بلا وعيٍ إلى إهانة ضيوفه لسببٍ تافهٍ، ثم مغادرةِ البيت وسطَ ذهول الضيوف، وزوجته وابنته خاصةً. يعود (جيريمي) إلى البيت وقد صمَّم على مغادرته نهائياً، ثمَّ يؤوب الأبُ أيضاً وقد غادر الضيوفُ في خِزيٍ ومهانة لنكونَ أمام مشهدٍ دراميٍّ مؤثّر، فرغمَ عدولِ الابن عن قراره أمام توسُّل أمه وأخته يُصرُّ الأب على طرده مع إعطائه شيئاً من المال كتكفيرٍ عن ذنبه القديم، مذكِّراً الجميعَ وبصوتٍ مرتفع أنه صاحب البيت وسيِّد القرار فيه، لكنه يثيرً استهجانَهم وتمرُّد ابنته (كارين) ضدَّه. وإثر مشادَّةٍ كلامية بين الأب وابنه يحصلُ احتكاكٌ جسديٌ بينهما؛ فيُشهر (جيريمي) مسدساً في وجه أبيه مهدِّداً إياه بالقتل، وأمام أنظار الجميع في لقطةٍ أقربَ ما تكون إلى أجواء المسرح التراجيدي يسرد الابنُ معاناتَه التي كبتَها منذ عودتِه من حرب الفيتنام، والتي تعود في جذورها إلى موقفه من أبيه، حيث كان يتمنى قتله، وكان يرى صورتَه في كلِّ جنديٍّ قتله من جنود الفيتكونغ، بل كانت صورتُه تدفعه إلى الإمعان في القتل وكأنه يقتله حقيقةً مراتٍ ومراتٍ.
إنه مشهدٌ يحبس الأنفاسَ حقاً، ويذكِّرنا بـ (هاملت) في مسرحية شكسبير الشهيرة وهو يُفضي في سريرة نفسه عن بكراهيته لأمه وعمه، ورغبته في قتلهما لارتكابهما معاً آثام الخيانة والغدر. نعود إلى (جيريمي) الذي يتهاوى بعد هذا البوح المؤلم كأنه أزاح عن نفسه أثقالها، وينكبُّ على صدر والده مستسمحاً باكياً. لكن! أنّى للأب أن يغفر له، وينسى هذه اللحظات العصيبة التي جعلت الموت يتراءى أمام عينيه. إنه مصمِّم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى على طرد ابنه من بيته، معرِضاً عن كلِّ توسُّلٍ للشفاعة. في المشهد الأخير نرى (جيريمي) يتّخذ طريقَه إلى حافلةٍ ستُقلُّه إلى العاصمة، حيث سيقام هناك احتفالٌ لتكريم المحاربين القدامى بإزاحة الستار عن نُصبٍ تذكاريٍّ يخلِّد أسماءهم. ويستغرب المُشاهد لهذه الخاتمة، أهي السخريَّةُ وقد بلغت ذروتها، أم الكِبرُ، والتعامي عن الجريمة بحقِّ الشعوب، والإصرارُ على خداع المواطن الأمريكي بمشروعية حروب بلاده الخارجية رغم ما فيها من ظُلمٍ بيِّن؟ المفارقةُ تتجلّى بأبلغ صورها في هذه الرؤية التي تبنّاها مخرجُ الفيلم وكأنه يسرد قصةً قصيرةً مفتوحةَ النهاية على الاحتمالات العديدة.
الفيلم لا يُعدُّ من الأفلام ذات التكلفة العالية؛ إذ بلغت تكلفتُه ثلاثةَ ملايين دولار فقط، وهو رقمٌ زهيد بالقياس إلى الأرقام الضخمة التي نسمع عنها في إنتاج الأفلام الهوليودية، ويعود ذلك إلى أن معظم أحداث الفيلم تجري في المنزل، فلا مشاهد خارجية، ولا إكسسوارات، ولا مُعدّات باهظة، ولا ديكورات ضخمة، ولا مجاميع بشرية عديدة. فهو لا يعتمد على الأيقونات البصرية وإنما على السرد بوجهٍ خاص؛ لأنه يقدِّم فكرةً استقرَّت بوعيٍ في خيال كاتبِ القصة، وفي عقل المخرج كرسالةٍ موجَّهةٍ إلى الشعب الأمريكي في المقام الأول تحملُ من الإدانة لحرب الفيتنام بقدرِ ما تحمل من محاولة التخلُّص من آثارها الوبيلة، حيث يؤدي البوحُ بحسب الطبِّ النفسيِّ إلى راحة المريض، وعودتِه إلى التكيُّف الإيجابي مع الحياة. لا نستطيع البتَّةَ أن نتعامى عن الهدف الإيديولوجي للفيلم كما هو الحال في الكثير من أفلام السينما الهوليودية، بل في الأفلام عامةً سواء كانت الإيديولوجيا إنسانيةً ترتقي بالوعي، أم لا إنسانية تكرِّس الوعيَ المستَلَب، وتخدِّر المشاعر. وأودُّ أن أشير على صعيد التقنية إلى أنَّ لقطات الفيلم كانت من نوع اللقطات القريبة، وهذه اللقطات مهمةٌ جداً في الكشف عن المشاعر الداخلية للممثِّلين من خلال إبرازها بوضوحٍ وقوةٍ تعابيرَ الوجه والانفعالات، ورسمِ ملامح الشخصيات داخلياً وخارجياً، وتختصُّ بها الأفلام التلفزيزنية عادةً.
ولقد ذكرتً آنفاً أنَّ الفيلم أقربُ إلى القصة القصيرة المعتمِدة على السرد منه إلى الفيلم المعتمِد على الأيقونات البصرية. فمِن تقنيات السرد، كما نعلم، الخطفُ خلفاًFlashback) ) حيث حفَلت مشاهدُ عدَّةٌ من الفيلم بلقطاتٍ من هذا النوع، وفيها يستعيد (جيريمي) ذكرياتِه عن حرب الفيتنام على شكل هلوسات عندما يخلو إلى نفسه في حديقة منزله وتحتدم المعاركُ من حوله، أو حينما كان يقتل جنودَ الفيتكونغ وهو يرى في كلِّ جنديٍّ صورةَ أبيه. ولا أظنني بحاجةٍ لأنْ أتلبِّث طويلاً أمام عنوان الفيلم كمحطَّةٍ أخيرة، فالمُشاهِد يدرك دونَ عَناء دلالةَ هذا العنوان على أنَّ حرب الفيتنام انتقلتْ بآثارها المدمِّرة إلى كلِّ بيتٍ في أمريكا، فهي حربٌ مستمرة، وبحاجةٍ إلى جهود العلماء المختصين لمعالجة عقابيلها الضارَّةِ على الأسرة الأمريكية.
إنَّ كلمة (Home) تُستعمل للدلالة على الوطن إضافةً لاستخدامها في الدلالة على البيت، فهي مختلفةٌ عن كلمة House) ) الدالَّة على المنزل فحسب، ومن هذا الاختلاف في الدلالة كان لنا أن نقرأ رسالةَ مخرج الفيلم على أنها موجَّهةٌ إلى كلِّ بيتٍ في الوطن، فهل يتَّعظُ المسؤولون الأمريكيون تُجّارُ الحروب القصيرةِ والطويلة، وينظرون بجدِّية ومسؤولية على مصالح شعبهم، أم إن للذهب بريقه الذي يُعمي الأبصار؟