التنمية.. وإعادة الإعمار (2) عوامل إنهاض الاقتصاد الوطني
بعد هذه الإشارات المختصرة لأوجاع الاقتصاد السوري والمواطنين السوريين وهمومهم، يمكننا تلمس ما تتوقعه الجماهير الشعبية، وما تتطلبه عملية إنهاض اقتصادنا الوطني، لكننا نسارع هنا إلى توضيح مهم، وهو استحالة تنفيذ أي خطوات اقتصادية جدية، أو تحقيق أي أجندات لإعادة الإعمار، إذا لم تتوفر العوامل السياسية التي تؤسس لإنهاء حالة الركود الاقتصادي، إن استمرار الأزمة السورية يُعدّ فشلاً للسياسة وتكريساً للسلوك العسكري العنيف، وخرقاً لقوانين المجتمعات المتحضرة.
هنا، نركز على حزمتين من العوامل اللازمة لإنهاض الاقتصاد الوطني:
أولاًــ العوامل السياسية
1 – استمرار عمليات المصالحات الوطنية في جميع المناطق، ودفع المجتمعات المحلية إلى ممارسة دورها في هذه المصالحات، توفيراً للدم السوري، والانفتاح على المعارضة السياسية الوطنية في الداخل.
2 الاستمرار في ضرب المجموعات الإرهابية السوداء، وتجفيف بؤر الدعم والمساندة الداخلية لهذه المجموعات عن طريق تفعيل المجتمعات المحلية في جميع المناطق، وخاصة تلك التي كانت تحتضن هذه المجموعات.صحيح أننا نتحدث هنا عن إنهاض الاقتصاد السوري، لكننا نرى أن هذه العملية لن تأخذ طابعها الشمولي والمجدي إلاّ بعد فرض هيبة الدولة على جميع المناطق السورية نظراً لتكامل قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية والنفطية في جميع المحافظات السورية.
3 – عقد الحوار الوطني السوري – السوري بمشاركة جميع القوى السياسية والاجتماعية والدينية، والتوافق على سبل إنهاء الأزمة بالطرق السلمية، ووضع أجندة لتنفيذ مطالب السوريين السياسية والاجتماعية، والعمل على إحداث التغيير السلمي باتجاه إنهاء الاستئثار بالسلطة، والتأسيس لبناء سورية المتجددة.. الديمقراطية.. التعددية.. العلمانية.. المعادية للامبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية السوداء.
4 – متابعة السعي لإحياء الجهود السلمية الدولية لإنهاء الأزمة السورية، فرغم أولية الحل السوري السوري، فإن التدخل الخارجي الذي قادته الامبريالية الأمريكية، وتورط أكثر من 80 دولة في ارسال العناصر الإرهابية، والدعم المالي واللوجستي الذي قدمه التحالف الدولي المعادي لسورية، إن ذلك كله يتطلب تدخلاً أممياً لضمان توقف الدعم الخارجي للإرهاب، خاصة بعد تشظيه باتجاه دول عربية أخرى، وتهديده للسلم الدولي.
ثانياً – العوامل الاقتصادية
إن حجم الأضرار التي لحقت بقطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي والنفطي يشير إلى صعوبة المهمة التي يتوجب على الحكومة السورية التصدي لها، إذ يتطلب الأمر خطة حكومية محكمة.. ومرنة في آن، فمن المستحيل التصدي لهذه المهمة بضربة سيف قاطع.. ودفعة واحدة، إذ تحدد هذه الخطة مشكلات كل قطاع على حدة، والأوليات الضرورية لإنهاضه، ومشاريع إنشاء أو إصلاح البنية التحتية التي يحتاجها، وذلك ضمن برنامج زمني شبكي يتقاطع مع المشاريع الأساسية والخدمية الضرورية لجميع القطاعات الأخرى.
هذه الخطة الحكومية (الإنقاذية) يجب أن توضع بالتعاون مع ممثلي الرساميل الوطنية في الداخل وبلاد الاغتراب، وجميع القطاعات المنتجة في القطاعين العام والخاص، وخاصة مع الغرف الصناعية والتجارية، ورجال الأعمال (الحقيقيين والوطنيين) بعيداً عن فرض الرأي.. والأساليب البيروقراطية التي اعتدنا عليها أثناء إعداد الخطط الخمسية في العقد الماضي. ولمزيد من الإيضاح نضع النقاط على الحروف:
1 – إن انتشال الاقتصاد السوري من حالة الركود، وإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة ليس مسؤولية الحكومة فقط، فهو مسؤولية جميع المنتجين.. بل مسؤولية الشعب السوري بأسره.
2 – لذلك نرى ضرورة إشراك الجميع في وضع الخطة الحكومية.. انطلاقاً من مبدأ بات يعد حقاً من حقوق الإنسان وهو (حق التنمية) الذي أقرته الأمم المتحدة جنباً إلى جنب مع بقية حقوقه الأخرى. (فضلاً عن أن هذا الحق منصوص عليه في دستور 2012).
3 – ضرورة تلازم هذه الخطة مع خطط أخرى لإنشاء البنية التحتية أو إصلاح المخرب منها، واللازمة لتنفيذ الخطة الاقتصادية الأساسية حسب البرنامج الزمني.
4 – الإسراع في وضع التشريعات الضرورية لتسهيل تنفيذ الخطة الحكومية، وإلغاء التشريعات التي أضرت بالقطاعات المنتجة، وتسببت بتراجع الاقتصاد الحقيقي لصالح القطاعات الريعية.
ونقترح أن تتمركز هذه الخطة الحكومية على الأوَّليات التالية:
1 – تلافي السلبيات التي تولدت عن السياسات الاقتصادية والممارسات البيروقراطية في العقد الماضي، ونخص منها ما يتعلق بالبطالة وفجوة الدخول والثروات، وبالتالي ضمان وتوفير أسس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وما يترتب عليها من شروط اقتصادية واجتماعية تمنع الاستغلال وتحدّ من التعدّي على حقوق المواطنة وحقوق الإنسان عامة، وتؤمن للجميع المساواة أمام القانون، وتحقق الكرامة والعيش المشترك للجميع. (1)
2 – السعي الجدي لعودة جميع المناطق التي كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية إلى حضن الوطن، فبعض هذه المناطق تؤمّن الموارد اللازمة لتمويل الخطة العتيدة، وخاصة المنطقة الشرقية التي تعد مستودع الغذاء ومكمن الثروة النفطية، فدون مساهمة القطاع النفطي والمحاصيل الاستراتيجية في رفد الخزينة بالإيرادات، يصعب تمويل تكاليف إعادة البناء بالموارد المحلية، وتخضع حينئذ لابتزاز المانحين.. والمقرضين.. والمتدخلين.. وأصحاب الوصايا والشروط.
3 – إعادة تأهيل البنية التحتية وفق برنامج زمني يأخذ بالحسبان مستلزمات إعادة إقلاع قطاعات الإنتاج الرئيسية، ونعني هنا تأهيل الطرق ومشاريع الطاقة الكهربائية وسكك الحديد وغيرها.
4 – مساعدة القطاع الصناعي العام والخاص على إعادة بناء ما تهدم من المنشآت، وتأمين مستلزمات الإنتاج، وتوجيه المصارف العامة والخاصة لتسهيل سياسة الإقراض.
5 – إعادة النظر بسياسات الانفتاح والتحرير، ولانعني هنا العودة إلى غلق الأبواب.. بل الانفتاح على الاقتصاد الإقليمي والدولي بقدر ما يحقق الفائدة لصناعتنا الوطنية وإنتاجنا الزراعي، ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي وقعتها الحكومات السابقة، وإلغاء ما كان منها مجحفاً وضاراً بقطاعاتنا الإنتاجية.
6 – وضع برنامج واضح لإصلاح القطاع العام الصناعي، والاهتمام بالمصانع الصغيرة والورشات والحرف والمشاغل، التي تشغّل الجزء الأكبر من اليد العاملة في البلاد، ومساعدتها على تأمين مستلزمات الإنتاج من مواد أولية وطاقة، وتسهيل حصولها على القروض المصرفية.
7 – ضمان الأمن الغذائي في البلاد عن طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة، والاستمرار في تنفيذ المشاريع المائية، ومصانع السماد والعلف، وتنمية الثروة الحيوانية، ومنح التسهيلات لمشاركة القطاع الخاص في إقامة المشاريع الصناعية- الزراعية في المحافظات الشرقية.
8- الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية، كالمرافئ والمطارات وقطاعات الكهرباء والمياه، وتحديث طاقمها الفني والإداري، وإعادة النظر ببعض التشريعات التي تفوح منها رائحة خصخصة هذه المرافق.
9 – دعم صناعتنا الوطنية وتحديثها، وتقديم مايلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة فعلاً.. لا قولاً قاطرة التنمية في البلاد، وحصر نشاطات الشركات الاستثمارية الكبرى بالمشاريع الأساسية ذات التكاليف الاستثمارية المرتفعة، لا في المطاعم والمنتجعات. وتوجيه القطاع المصرفي الخاص والعام نحو المساهمة في المشاريع الكبيرة الملحوظة في خطة التنمية، وإطلاق القروض العامة(سندات الخزينة) لتمويل المشاريع الاستثمارية حصراً.
10- قيام الحكومة بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الوطني بين الفئات الاجتماعية، عبر إعادة النظر بالنظام الضريبي ليكون عادلاً وفاعلاً، وتأسيس شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً، كالتعليم المجاني المتطور، والضمان الاجتماعي والصحي، وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، وتمكين المرأة.
11 – مكافحة الفساد بجميع أشكاله وتجلياته، فهو يعطل تنفيذ الخطط التنموية، ويحبط آمال الجماهير الشعبية بأي جهد لإنهاض الاقتصاد وإعادة الإعمار.
12 – ضبط العلاقات الاقتصادية والتجارية بالعالم الخارجي وتطويرها بما يخدم أهداف عملية التنمية ويعزز القرار الاقتصادي الوطني المستقل، ومن المهم التدرّج المحكوم بالانفتاح على العالم الخارجي وتمكين الاقتصاد كأولوية ضرورية، وإقامة علاقة متوازنة ومسؤولة مع المؤسسات المالية الدولية، واستعمال حقنا في الحصول على الموارد المالية اللازمة دون شروط مجحفة بحقوقنا السيادية.
المراجع
1 – راجع د. منير الحمش (اقتصاد اليوم التالي).