القرار ونقيضه ولجنة لم تقدم شيئاً سعر صرف الليرة المتصاعد يمثل واقعنا الاقتصادي!
لا أحد يستطيع أن يتكهن بالحال الذي ستؤول إليه الليرة السورية، وأسعار صرفها، فبورصة ارتفاع أو انخفاض سعر الصرف المستمرة على مدار الساعة، تجسد حالة التخبط التي تعيشها الإدارة النقدية، وتشير إلى عجزها عن ضبط السعر، واكتفائها بتقديم الوعود القاطعة بمعالجة المسألة. فتصدر القرار ونقيضه، وتسمح ببيع الدولار ضمن ضوابط، ثم يجد المواطن أن لا دولارات في منافذ البيع الرسمية، بينما تنشط السوق السوداء كثيراً، لدرجة يصبح فيها صُنّاعه هم المتحكمون بالسعر.
ثمة حاجة فعلية في السوق للقطع الأجنبي، ليس مردها احتياجات المستوردين على الإطلاق، فهؤلاء قبل أزمة أسعار الصرف، علا صوتهم جداً مطالبين بتأمين الطرقات ليتسنى لهم الاستيراد. حتى إنهم في أوقات معينة لم يستوردوا شيئاً، وانتظروا تطور الأوضاع، ما دفع بالشركات الموردة للسلع والبضائع، أن تضمن في عقودها عبارة تسليم الحدود أو المرافئ، على عكس ما كان يحدث سابقاً أن يكون التسليم أرض المستودع. وهذا يتطلب من الجهات المعنية ولاسيما مديرية الجمارك العامة أن تعلن أسماء الشركات المستوردة والمستوردين الحقيقيين، مع كميات البضائع ونوعها وقيمتها أيضاً التي دخلت فعلاً إلى البلاد، وتزويد هؤلاء بالقطع الأجنبي. لأن المتاجرة بالاستيراد تحت ظرف تأمين مستلزمات المواطنين واحتياجاتهم الرئيسية باتت لا تطاق، وأخذت مفهوماً جديداً ـ قديماً يتعلق بالمتاجرة بالقطع الأجنبي. فهناك عدد كبير من الفعاليات الاقتصادية وبالذات العاملين في مجالَيْ الاستيراد والتصدير، متوقفون عن العمل نظراً للأوضاع الأمنية العامة التي تعرقل أعمالاً كهذه، ورغبة منهم أيضاً في عدم الخسارة، نتيجة حالات السطو التي انتشرت على الطرقات العامة، وحالات الابتزاز المعلن التي تقوم بها جهات عامة في بعض الأحايين بشكل فردي أو غير ذلك.
صدر خلال الفترة الماضية أكثر من قرار لمعالجة موضوع أسعار الصرف، وشُكلت لجنة لمتابعة هذه القضية، إلا أن السعر ظل يرتفع تدريجياً وبسرعة بطيئة، والحديث هنا عن ليرتين أو أكثر صعوداً في اليوم، ما يعني أنه خلال فترة قصيرة جداً، يظهر الفرق الشاسع بين سعرَيْ الصرف السابق واللاحق. ومع تتالي ارتفاع السعر. فهذا يعكس أن كل ما اتخذ من إجراءات وكل ما فعلته اللجنة المذكورة، لم يتمكن من ضبط سعر الصرف. وهنا نحن أمام تفسيرين اثنين: الأول أن كل هذه الإجراءات لم تك كافية أو عاجزة عن ضبط السعر. والثاني يتمثل بانفلات أسعار الصرف من عقالها لأنها تعكس حالة الاقتصاد بشكل عام الذي بات في وضع لا يحسد عليه، سواء لجهة الخسائر الفادحة التي تكبدها أو لوقوف عجلة معظم القطاعات.
كما يظهر التخبط في السماح للمصرف التجاري بالاستحواذ على حق بيع الدولار، ليصدر بعد فترة وجيزة قرار آخر يسمح ببيع الدولار لشركات الصرافة. والمشكلة ليست في الجهة التي تبيع القطع الأجنبي، مادامت كل هذه الجهات تتبع بشكل أو بآخر لمصرف سورية المركزي مباشرة أو إشرافاً. كما أن البيانات المطلوبة في كلا الحالتين تكاد أن تكون متطابقة، وبالتالي تصبح العملية تحصيل حاصل. ولهذا ابتعد المركزي عن جوهر القضية، وهي تأمين القطع اللازم للسوق يومياً، واقترب أكثر في المحاججة والجدل الذي يعطي الحق لجهة بعينها بيع القطع الأجنبي من خلاله ـ أي المركزي ـ حتماً. أزمة القطع الاجنبي في سورية ليست جديدة، فمنذ 20 شهراً تتوازى مشكلة أسعار صرف الليرة مع الأزمة التي تعيشها البلاد على مختلف الصعد، وتطورها الذي أدى إلى هدر الموارد وتدمير جزء من الاقتصاد، فضلاً عن زهق أرواح المواطنين، ولايمكن تصور أن سعر صرف الدولار الذي كان قبل الأزمة يتراوح ما بين 49 إلى 51 ليرة، وارتفع إلى مستويات غير مسبوقة، ووصل مؤخراً إلى 92 ليرة، هو وليد المصادفة أو المفاجأة، أو أنه نتيجة تلاعب تجار العملة فقط. فالمدى الزمني الطويل (20 شهراً) والطريقة التي ارتفع بها إلى 55 ليرة ثم إلى ،64 وقفز إلى تخوم الـ ،70 ليقفز مرة جديدة إلى نحو 90 ليرة وإلى ما يفوق الـ ،100 أتى نتيجة أحداث معينة، وتطورات عاشتها البلاد. واللافت أن قلة السيولة التي تعانيها الأسواق والمواطنون بذات الوقت، تتناقض مع الطلب المتزايد على شراء الدولار، والمثير للتساؤل أن تقديرات المصرف المركزي لحاجة السوق من القطع الأجنبي غير معلنة؟ وهذا الغموض ينعكس سلباً على سعر الصرف، ويتناقض مع ما تسربه بعض المصادر أحياناً التي تكشف الكتلة النقدية التي باعها المصرف بالدولار، ومن ثم الكتلة التي اشتراها من السوق وحجم الربح المحقق.
واقع الليرة السورية، ومدى استقرارها ومتانتها، يعكس حال الاقتصاد الوطني، بعجره وبجره، بخيباته ومنجزاته، بتخبطاته وسيره على السكة الصحيحة. هو واقع لا يمكن فصله بشكل من الأشكال عما يجري على الأرض، حتى ولو حاول البعض تحييده، فواقع الليرة وحالتها (أي سعر صرفها أمام العملات الأخرى) يمثل واقعنا.