صور من الواقع… تربية الثقافة وثقافة التربية

هو وأنا

كان الركاب كثراً، والحافلات في الكراج قليلة. رصفنا السائق كل ثلاثة في مقعد اثنين، وكنا له شاكرين.

منذ حشر ذلك الاشعث نفسه ـ كواسطة العقد ـ بيني وبين زميلي، وراح يعمل أصابعه في شاربيه، تعوذت بالله من الشيطان الرجيم. وأمضينا سحابة طريقنا:

هو يعمل أصابعه في أسنانه في..

وأنا أتعوذ بـ…

هويعمل أصابعه..

وأنا أتعوذ..

هو..

وأنا..

كان المكان ضيقاً على الرجل. وكان الرجل يريد تزجية الوقت (مثلما اعتاد على ما يبدو في هكذا حالات) بما يفيده. فأخذ يتفقد بأصابع يمناه، الشعرات المتطاولة على مدخل طعامه. يستفرد بها واحدة واحدة، ثم يطبق عليها ليقضم الجزء المتطاول بأسنانه، فتعود لتتراصف مع رفيقاتها راضية مرضية. وفي الوقت المستقطع ما بين قضم شعرة وأخرى، تداعب أصابعه تجاويف منخريه. متفقدة مخزونهما من حمولة الهواء. فتبقي على ما تشاء منها، وتعيد للهواء ما تشاء.

 

شاعر مغمور

ما إن جلس شاعرنا السبعيني إلى المقعد وأراح جسه من وعثاء الدرج، حتى اعترف لي بما وراء ابتسامته المثقفة، مفتتحا

 استغرابه بكلمة (تصور) مشفوعة برشة مشط كامل من طلقات استفهام وتعجب، أمطرتني بها عيناه وقسمات وجهه. عز عليه بعد هذه (الكبرة) أن يقدّم نفسه لمسؤولة مجلة الأطفال الفتية ـ المقصود بالفتية، المسؤولة وليست المجلة ـ قائلاً:

محسوبك الشاعر فلان الفلاني.

فتجيبه متسائلة على طريقة المطربة ليلى مراد:

طبيب عيون حضرتك؟

مستبدلة بـ (طبيب عيون)

(شاعر مغمور)!؟

عز عليه (المسكين) وهو متنكب همّ فلسطين والجولان وما في حكمهما من نكبة ونكسة، وكاتب في مختلف أجناس الأدب (دراسة وشعراً ومقالة وحواراً) من وحدة وانفصال. ناهيك بإصداره أكثر من دزينة مجموعات شعرية، ضمنها مجموعتان للأطفال، نال عليها عدة جوائز. الأمر الذي إن لم يجعل منه علَماً في دنيا الشعر. فلن يدعه يشكو خصاصة في الشهرة أو قلة في الأدب.. عز عليه أن لا تغمره أم أسامة الجديدة، بمعرفتها!

 

شاعر (جملة)

لا أدري كم من الوقت قد مضى على الرجل في مكتب رئيس القسم الثقافي في الجريدة، ولا مخا دار بينهما من حديث. بيد أنني منذ دخلت عليهما والضيف يتكلم عن حساسية الشعر وخصوصية الشاعر. لم يفت شاعرنا الضيف قبيل آخر رشفة من فنجانه أن يخصص الدقيقة الأخيرة من حديثه ـ لما تحمله من حساسية وخصوصية ـ لملاحظة يوجها سعادته لمضيفه، مكنياً إياه بابنه (يا أبو..) أجزاها له كمن يجود بسلة غذائية للمهجرين ومتضرري الحرب المعولمة على سورية، عندما قال، واضعاً على الطاولة مظروفاً من نوع (أبو قلم أحمر):

أعرف أن قسماً كبيراً من شعرائنا قد ملوا الكتابة عن المناسبات، وقسماً آخر لا يمتلك ناصية القوافي مثل صاحبك ـ قاصداً نفسه طبعاً ـ لذلك حملت لكم ما يكفيكم مؤونة مناسبات العالم كله من دون أن يحملكم جمائل المتعجرفين، أو يضطركم لسؤال المعتكفين.

 

ميار وعشتار

قال لها: أحببتك كما لم ولن تحب امرأة، جسداً وروحاً!

قالت له: أرخصت لك ما لم ولن يحلم به رجل، وهبتك روحي، أما جسدي فهو ليس ملكي وحدي!

قلما اجتمع لعاشقين، ما اجتمع للرسام الوجودي (ميار) وللموسيقية العصامية (عشتار) من رهافة إحساس وحسن طلعة وصدق طويلة.. قلما عذّب عاشق معشوقه، مثلما عذّب أحدهما الآخر، وبالتالي قلما سمع محب بقصتهما، إلا تألم لهما ومنهما، وسع شوقه لاحتضان محبوبه قلباً وقالباً!

 

جميع من أطلت علينا ملامح وجوههم في هذه الزاوية، يعانون من سعة أو ضيق في الكرسي أو المكان الذي يشغلونه، الأمر الذي تنعكس نتائجه سلباً على أدائهم.

قد لا يكون (الأشعث) قاصداً من وراء تصرفه ذاك، أن يسيء لأي من الركاب. غير أن ضيق المكان وطول الرحلة، وضحالة ثقافة السلوك أو انعدامها لديه، كل ذلك قد دفع به لممارسة تسليته المحببة، التي تعودها منذ الطفولة ربما.

قد لا تكون مسؤولة المجلة سيئة بالضرورة. لكنها شعرت ببعض برودة، بسبب اتساع الكرسي الموكل إليها ملؤه. فحاولت معالجة البرودة بحرارة التشوف. وأحست ببعض ضحالة ثقافتها الأدبية، فارتأت تعويضها بتجريب فراستها.

وقد لايرى (شاعر الجملة) في تصرفه ما يعيب، على صعيد واقع حالنا، الحافل بثقافة المصلحة، بمعناها النفعي الضيق، بل لا يستبعد أن يخامره شعور بنوع من الاعتزاز والمفاخرة، كونه وبأقل ما يمكن من الفطنة والشطانة والكلفة والموهبة، يوفر أكثر ما يمكن من الوقت والمال والجهد والشهرة!

وقد ترى عشتار أن من حقها التصرف بأهواء قلبها وروحها ووجدانها، أمام الله والبشر. أما جسدها فمطوّب باسم زوجها. في الوقت الذي يرى فيه ميار أن من حق الإنسان التصرف بسائر ما يخصه، على ألا يضر ذلك بغيره، بعيداً عن أية قداسة أو تقديس، أو موافقة أو ترخيص.

الثقافة توعية وتربية وليست معلومات ولا خدمات. والتربية أصول وجذور وليست أوامر ولا زواجر. ولشد ما تعنى الثقافة بالجذور والأصول وتنأى بنفسها عن المظاهر والقشور.

من ألد أعداء الثقافة، الفطريات والفطرية. فالمجلة الثقافية التي تأتي برعدة من جهة ما لا تعطي ثماراً وإن أثمرت فزقوم الثمار، والناقد الثقافي الذي يقدم تحت إضاءة بلجكتور قرار سياسي، سرعان ما تعاني نقوداته من نوسان في الإضاءة. وإن أضاءت ستكون كهربتها مرتبطة بكهربة السياسة، اتي كثيراً ما يتذبذب تيارها وتتبدل وتتشقلب محطاتها.

وبقدر ما تنمو وتفشو وتقدس سلطات الدين والقبيلة والفرد، على تفرعاتها ومستوياتها، وتسود ثقافتها، تهمّش وتقزّم وتحجّم سلطة المواطن والمجتمع المدني والوطن، وتتنحى ثقافتهم. ولن نكشف سراً أو نأتي بجديد إذا ما قلنا، إن استبدال ثقافة ما بأخرى، في مجتمع ما، هي عملية ليست سهلة ولن تتحصل عبر الآمال الكبيرة للصلاح والنيات الحسنة للمؤمنين، فحسب. وإنما بالعمل والعلم الدؤوبين، بزرع بذور الثقافة الجديدة في أذهان النشء ورعايتها. بتفهيمهم إياها، باتباع الاساليب الحديثة وضرب الأمثلة الحية، بعيداً عن الإملاء والتبصيم، اللذين فقدا صلاحيتهما وأثبتا عقمهما.

العدد 1140 - 22/01/2025