الدواء السوري… مسيرة رائدة تتعثر في الأزمة

شهدت السنوات الماضية تطوراً كبيراً للصناعات الدوائية في سورية، فغدت تنتج قرابة 93% من احتياج السوق المحلي، عدا الكميات التي تصدر لنحو 60 دولة، ما يوفر على الاقتصاد الوطني مبالغ طائلة من القطع الأجنبي تقدر بملياري دولار، ناجمة عن التصدير وتوفير استيراد الدواء. فباتت من الصناعات التحويلية الهامة التي تسهم إسهاماً كبيراً في الدخل القومي، إضافة إلى توفيرها فرص عمل كثيرة قُدرت بآلاف العاملين قبل الأحداث الأخيرة وقبل إغلاق العديد من المعامل، كما أنها أوجدت صناعات ملحقة كالتغليف والبلاسيتك والزجاج وغيره.

وذكر تقرير لجمعية رجال وسيدات الأعمال السورية أن عدد الأصناف الدوائية المنتجة تضاعف خلال سبع سنوات، فتجاوز 8000 صنف في نهاية عام 2010. وباتت هذه المعامل تصنع كل شيء تقريباً حتى الصناعات التي تحتاج إلى تقنيات عالية، وكان آخرها الأنسولين. وبدأت مؤخراً بدراسة تصنيع اللقاحات بالتعاون مع شركات عالمية، وكذلك أدوية السرطان، الأمر الذي يخفف كثيراً من كلفة الاستيراد لهذه الأدوية، وتعمل في السوق السورية 72 شركة للصناعات الدوائية، اثنتان منها قطاع عام.

إلا أن الصناعة الدوائية تأثرت كغيرها من القطاعات السورية المنتجة، بالأزمة التي تعصف بسورية، فتدنى الإنتاج كثيراً بسبب الحصار الاقتصادي والعقوبات التي فرضها المعسكر الغربي ومشايخ الخليج وتركيا. لاسيما أن جزءاً كبيراً من هذه الصناعة يعتمد على مواد أولية ومستلزمات إنتاج مستوردة من الخارج، وعدم تأمينها في الوقت المناسب مع ارتفاع أسعار صرف القطع الأجنبي وصعوبة التحويلات المصرفية، كل ذلك مجتمعاً أثَّر سلباً على إنتاج الأدوية وسائر المنتجات الصيدلانية، وشكل خللاً في سوق الإنتاج الدوائي لمسته الشركات قبل المواطن وجعل عملية تأمين الأدوية أمراً صعباً، إضافة إلى تضرر القطاعات الموازية للصناعات الدوائية من الكهرباء والمحروقات وعدم وجود طرق آمنة لنقل الأدوية ووصول العاملين إلى معاملهم.

أما عن تأثير الأوضاع الداخلية على هذه الصناعة فلم تستثنِ المجموعات المسلحة في سورية شركات ومعامل الأدوية من تخريبها، إذ تعرضت بعض شركات الأدوية في حلب للسرقة، فيما نالت شركتا تاميكو في منطقة المليحة بريف دمشق وفارمكس في الحسكة النصيب الأكبر من التخريب، عدا اضطرار بعض المعامل للتوقف عن الإنتاج في بعض مناطق التوتر، فخرج عدد منها من الإنتاج نهائياً في حلب وريف دمشق وحمص، حيث تتركَّز معظم مصانع البلاد. وتأثرت معامل أخرى أيضاً.

 وحسب تقديرات البعض فإن أكثر من 70% من المصانع الدوائية أجبرت على الإغلاق بسبب الأحداث، والمعامل الباقية تعمل بأقل من ربع طاقتها الإنتاجية، ومنها ما أغلق أبوابه منتظراً تعديل أسعار الدواء. فعمل بعض التجار بجشع على احتكار الأدوية في مستودعاتهم، فباتت المناطق السورية تعاني نقصاً حاداً في الأدوية والمنتجات الصيدلانية.

وأفادت تقارير صدرت مؤخراً بوجود نقص بنسبة 40% من حاجة السوق، وهذه النسبة مرشحة للزيادة إن لم تُحلّ، خاصة أن معظم المناطق التي تتوزع فيها المعامل الدوائية تشهد أعمال عنف. فبات تأمين منتجاتها للمحافظات الأخرى مرهوناً بالحل السياسي وما يفضي إليه الحوار الوطني المزمع إقامته، وإلا فستكون نتائج ذلك كارثية على القطاع الدوائي الذي يشهد تدميراً لمعامله وسرقة لمحتوياتها.

وفق ماسبق فالشارع السوري يعاني اليوم نقصاً في كميات الدواء، مصحوباً بسخط كبير من المواطنين الذين لا يجدون طلبهم في الصيدليات ولا حتى مشابهاً له، على الرغم من التصريحات الرسمية التي تؤكد ألا أزمة دوائية. ويصر أصحاب التصريحات على توفر معظم الأصناف في الصيدليات، لكن لسان حال المواطن السوري يخالف تلك الأقوال!

وأمام تحديات الدواء المفقود من جهة والأسعار الخيالية من جهة أخرى أضحى المواطن السوري مجبراً على شراء الأدوية المهربة من دول الجوار، على الرغم من أسعارها المرتفعة جداً. إذ لا خيار إلا تأمين الدواء لنسيبه المريض بأي ثمن، في حين يقدر حجم الدواء المهرب إلى سورية بأكثر من 100 مليون دولار، قد يكون جزء كبير منه مزوراً.

يُشار إلى أن الحكومة وافقت مؤخراً على رفع أسعار الأدوية المحلية نتيجة للظروف الحالية وارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار الصرف، وذلك بناء على توصية اللجنة الاقتصادية رقم /4/ الصادرة بتاريخ 28كانون الثاني الماضي. وهكذا سترتفع أسعار الأدوية التي يصل سعرها إلى 50ليرة سورية وما دون بنسبة 40%، و25% لشريحة 51-100 ليرة، و10% لشريحة 101-300 ليرة، و 5% لشريحة 301-500 ليرة، وصفر في المئة للأدوية التي يفوق سعرها 500 ليرة سورية. وأكدت الحكومة في توصيتها أن تتم إعادة تعهد قطع التصدير للأدوية المصدرة وبيع القطع الناجم عن التصدير إلى مصرف سورية المركزي.

ولكن لمصلحة من أتت هذه الزيادة؟ هل راعت مصالح المواطنين والطبقات الفقيرة والكادحة التي تعاني ثقل الأزمة وترزح من الضغوط الاقتصادية؟!

نحن نتفهم شكاوى شركات الأدوية، وأن خسائرهم تتجاوز الأضرار المادية المباشرة إلى الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج بسبب العقوبات الجائرة، ما رفع كلفة البدائل والاعتماد على السوق السوداء للالتفاف على العقوبات. فضلاً عن ارتفاع تكاليف التأمين على البضائع في سورية. غير أن سياسة الحكومة حمّلت الأعباء للمواطنين بقرار رفع أسعار الأدوية من أجل تعزيز أرباح الشركات، وحرمت السوريين الذين تآكلت قدراتهم الشرائية إلى درجة كبيرة، من القدرة على شراء الدواء.

ختاماً بانتظار أن تساعد السياسات الحكومية قطاع الصناعة الدوائية أن يعود إلى مكانته ومساهمته في الدخل الوطني، وتعمل على تأمين الطرقات اللازمة لنقل الأدوية من أماكن إنتاجها وتأمين الحماية اللازمة للمنشآت الدوائية والصناعية عامة، مع السعي الحثيث لتأمين بدائل لجميع الأدوية المفقودة من الأسواق، لأن نقصها ينذر بعواقب كارثية، إذ بدأت الإنذارات بتراجع مخزوننا الدوائي وبدء خلو المستودعات والصيدليات والمشافي، مع التأكيد أن تراعي الحكومة في قراراتها الطبقات الفقيرة والكادحة، فهي الأكثر تأثراً، وأن يعاد النظر بالسياسات التسعيرية من جديد وفق مؤشرات الفقر والبطالة، مع التشديد على محاسبة تجار الأزمات الذين تلاعبوا بالدواء في الأسواق السورية.

العدد 1140 - 22/01/2025