خطاب الحكومة الاقتصادي عبارات منمقة لواقع بائس
لم يكن خطاب الحكومة الاقتصادي في مجلس الشعب مقنعاً لدرجة كبيرة، ولم يظهر على هذا الخطاب أن الحكومة عازمة على التصدي للمشكلات الاقتصادية الكثيرة والمستفحلة بجرأة، وأظهر الوزراء الذين تحدثوا في المجلس الأسبوع الماضي مرونة في اعترافهم بحجم المشكلات التي تؤرق الاقتصاد الوطني، وتعرقل التنمية، وتنعكس سلباً على المواطن. لكنهم في الوقت عينه، رددوا جملة من المبررات التي لا تسمن أو تغني من جوع، وكرروا خطابات لم تعد تنفع كثيراً لمعالجة وضع اقتصادي ومعيشي وتنموي بائس. ومقابل مداخلات أعضاء البرلمان التي وصفت ب (العجقة) جاءت ردود الوزراء باردة، باهتة، تركزت حول مواقف سياسية تجاه الأزمة في سورية، ورد كل المشكلات إليها، ولتداعياتها، في حين غاب ما انتظره الكثيرون، وأبرزُه الإجابة على تساؤل: ماذا أنتِ فاعلة ياحكومة؟
فما قيل عن الأسعار وارتفاعها المتواتر إلى حدود غير مسبوقة، وحالة العجز الحكومية التي باتت واضحة تماماً، لاسيما لجهة التدخل في الأسواق، ولجم تصاعد الأسعار، والردود الحكومية التي أتت لتفسر الماء بعد الجهد بالماء، تعكس حالة التراخي المقيتة في عمل مديريات حماية المستهلك. وترك المستهلك وحيداً يواجه المصير غير المرغوب فيه، بلا حماية أو مظلة، أو جهاز رقابي تمويني يضع حداً لكبار المحتكرين والمتحكمين والمستحوذين على الأسواق المحلية. وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس تجاه كل ما قيل حول إجراءات الحكومة المتعلقة بتأمين المحروقات ولا سيما مواد الغاز والمازوت والبنزين.
ويبدو أن الوعود التي قدمتها الحكومة عبر أجهزتها المعنية في توزيع هذه المواد تذر الرماد فوق العيون، وتثبت الحالة التي لم نكن نريد الوصول إليها، وهي عدم وجود برامج وآليات واضحة يمكن الاعتماد عليها لتضييق الخناق على المحتكرين، و تمكين المستهلكين من الحصول على هذه المواد بيسر وسهولة وبالأسعار الرسمية. بينما كان الرد الحكومي يشي بالعجز الواضح عن التحكم بهذه المواد في الوقت الحالي، ويشير إلى الصعوبات التي يصعب معالجتها. فهل تعجز الحكومة عن وضع آلية مناسبة لتوزيع المحروقات؟ وهل الأزمة التي تتعرض لها البلاد هي السبب الوحيد والحقيقي الكامن وراء هذه المشكلات المتعلقة بالمحروقات وتوزيعها؟ قطعاً، لا، فأزمة المحروقات عمرها أكثر من عقد، زادتها أزمة البلاد المحتقنة تعقيداً، لكن الفشل الحكومي في معالجة هذا الملف الشائك والمعقد ليس جديداً، وبالتالي كل ما قيل عن الصعوبات لا يمكن قبوله بشكله العام، لأنه ليس وليد اللحظة، بل ثمة قوى كثيرة راغبة في بقاء هذا الملف مفتوحاً على مداه، لاسيما تلك القوى التي تنضوي تحت لواء الفساد ومنظومته المخيفة، التي اجتمعت قواها متوحدة ضد مصلحة المواطن واقتصاده الوطني.
ما ردده الوزراء في مجلس الشعب، لم يردم الفجوة المتسعة مع المواطن، ولم تصل الكلمات المنمقة، والتعابير الجميلة، والعبارات المصوغة بعناية، إلى فكر المواطن وعقله وقلبه، لا لأنها عقيمة وجوفاء، بل لأنها لم تحمل في ثناياها ما يريده المواطن بشكل مباشر، وما يتطلبه من إرادة تدفع بحيواته إلى الأفضل، وما يتمناه ليكون دخله قادراً على الإيفاء بمتطلبات الحياة الكريمة. فالفجوة القائمة أساساً تحتاج إلى جسور تواصل تبنيها الحكومة مع مواطنها، ليساعدها في ردم الفجوة، لا في تعميقها، في إيجاد السبل التي تعزز العلاقة التشاركية لا في السير عكس التوجهات، في لملمة الجراح المفتوحة لا في زيادة الآلام التي أثقلت كاهله.
كما لم يسمع المواطن المتردد، والخائف، والمتوجس، من الاستمرار في الإجراءات الليبرالية، خطاباً يبدد كل قلقه، ويريح باله، ويؤسس لمرحلة جديدة، تُبنى ليس بالعودة إلى ماكان قائماً، من غياب النهج، وضبابية الرؤية، وسواد التوجه العام، وغياب البرامج والخطط، بل إلى ما هو أوضح، في النهج الاقتصادي الذي يعمق الناحية التكافلية والتعاضدية، ويعزز الطابع الاجتماعي في الاقتصاد الذي بات انحرافه الزائد نحو الليبرالية الجديدة يثير التخوف. ليبرز التساؤل: لماذا لم يطمئن أحد في الحكومة المواطنين أن السياسات الاقتصادية القادمة يجب أن تكون مختلفة، وتنطلق من تنمية الانسان وتستهدفه مباشرة، وتحاول أن تحظى برضاه؟ لماذا يُطلب من المواطن قبول السياسات الاقتصادية، أياً كانت، ليبرالية أم اشتراكية أم… إلخ، ويطلب منه التصفيق لها، والتهليل لطرحها، والتيقن أنها الوحيدة القادرة على معالجة المشكلات الاقتصادية؟ ولماذا تظن الحكومة نفسها أنها تملك بيديها الحلول السحرية؟
ما قدمه الوزراء على أهميته، لم يكن من قبيل المكاشفة الصريحة، وفرد الأوراق، وفتح الملفات، بشفافية، إذ تغيرت الوجوه، واختلفت الصيغ والعبارات، لتبقى المواقف الحكومية ذاتها هي الثابتة، مدافعة عن القرارات، والسياسات، والإجراءات، دفاعاً مستميتاً، بينما يشعر المواطن أنه تعرض للغبن والظلم بسبب هذه القرارات. وكأن المطلوب من المواطن أن يصفق للسياسات أي سياسات، ويقبل بها أيما قبول، ويبصم بالعشرة، مادامت الحكومة هي التي تقدمها له. هي حالة من الدوران في الحلقة المفرغة التي لابد من الخروج من دوامتها. فليس كل ما تقوله الحكومة صحيح ودقيق، وليس بالضرورة أن تقنع كلمات وخطابات الوزراء المواطنين، فهناك مسافة تفصل كلا الجانبين، مسافة لا يمكن قياسها بالأمتار والسنتيمترات، بل بمدى نجاح الحكومة في تحقيق تطلعات مواطنيها