زيادة الأجور ورفع حدها الأدنى… مطلب ملحّ
يرزح السوريون تحت ثقل الأزمة التي تعيشها سورية، فالغلاء يزداد يومياً، وأعداد الفقراء تتضاعف، ومعدلات التضخم تتفاقم. وقد انعكست الأزمة انعكاساً مباشراً على القدرة الشرائية لليرة السورية، وعلى أصحاب الدخل المحدود، وعلى الفئات الفقيرة، الذين تحمّلوا عجز الحكومة عن الاضطلاع بمسؤولياتها الاجتماعية وعجزها عن كبح جماح الأسعار. فازدادت الفجوة بين الأجور والأسعار وتفاقمت الصعوبات والمشاكل، وهذا كله نتيجة، لا للأزمة التي تشهدها الساحة السورية منذ آذار 2011 فقط، وإنما يعود أيضاً للسياسات النيوليبرالية الفاشلة التي اعتمدت في العقد الماضي ولعبت دوراً كبيراً في توسيع هذه الفجوة، إذ كانت محابية للأغنياء على حساب الطبقات الكادحة والفقراء، ما أدى لتعمُّق الفرز الطبقي. الأمر الذي أدى إلى نمو رأسمالية طفيلية جشعة، تدعمها بيروقراطية حكومية فاسدة تشاركها في استغلال الدولة والشعب. ومن ناحية أخرى أدى كفُّ يد وزارة التموين عن مراقبة السوق إلى أن يقع المواطن في براثن تجار جشعين، فارتفعت الأصوات مطالبة بتحقيق التوازن بين الأجرين الاسمي والحقيقي، خاصة مع وصول أسعار السلع إلى معدلات غير مسبوقة ولم يعد بإمكان الراتب أن يسد رمق صاحبه في تأمين احتياجاته الأساسية.
إذا كانت كتلة الرواتب والأجور المنخفضة أساساً في سورية تقدر بما يقارب 300 مليار ليرة سنوياً، ويعاني المواطن من فقدان قيمتها الحقيقية في فترات الاستقرار، فكيف الحال في عامي الأزمة هذين؟!
الأجران الاسمي والحقيقي
الأجر الاسمي هو الأجر النقدي أو كمية النقود التي يحصل عليها العامل، أمّا الأجر الحقيقي فهو يمثل كمية ونوعية السلع والخدمات الاستهلاكية المختلفة التي يتمكن العامل من الحصول عليها عن طريق الأجر الاسمي، أي أنه مقدار القوة الشرائية للنقود التي يحصل عليها العامل نتيجة عمله. وكلما ارتفعت الأسعار مع ثبات الأجر انخفض الأجر الحقيقي، والعكس صحيح. فمن الممكن أن يزداد الأجر الاسمي لكن الأجر الحقيقي يتراجع، وهذا يتوقف على معدل التضخم ومستوى الأسعار. فإذا زاد معدل التضخم بنسبة أكبر من معدل زيادة الأجور يحصل التراجع في الأجر الاسمي والعكس صحيح. ولذا يجب عند دراسة تطور نصيب العمل في الناتج أن نبعد عامل التضخم، فالزيادة الاسمية في الأجور لاتعبر عن تحسّن وضع الطبقة العاملة، بل لابد من دراسة الأجور الحقيقية لمعرفة ذلك التحسن، والعمل على إحداث تغيير به مع التغيير في الأسعار بقدر مواز أو يزيد قليلاً، وذلك حتى لا يضارّ الموظف أو العامل في ذلك، مع مراعاة الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنجم عن هذا التغيير.
النسبية
إن ما يهمنا ليس الأجور الاسمية ولا الحقيقية وإنما نسبة الأجور إلى الأرباح (أي الأجور النسبية) التي تُعبر عن نسبة حصة العمل في القيمة الجديدة التي خلقها إلى حصة الرأسمال منها. فالأجور النسبية قد تهبط حتى في حال بقاء الأجور الحقيقية والاسمية ثابتتين، بل وحتى في حال ارتفاعهما، وذلك عندما ترتفع الأرباح بنسبة أكبر من نسبة ارتفاعهما. وهنا قد يطرأ تحسن على الوضع المادي للعامل بأجر ولكن على حساب وضعه الاجتماعي، وذلك بسبب تفاقم حدة التفاوت الطبقي مع كل انخفاض جديد في قيمة الأجور النسبية.
وتفترض العلاقة الصحيحة بين الأجور والأرباح أن تتراوح نسبة الأجور بين (40 و60)% من الدخل الوطني لأن انخفاض نسبة الأجور عن 40 % يؤدي إلى انخفاض حجم الاستهلاك لشريحة العاملين بأجر، وهذا يؤدي إلى عدم قدرة قوة العمل على تجديد نفسها وتراجع إنتاجيتها أولاً، وتراجع الطلب ثانياً، ما يعني تراجع حجم الإنتاج اللاحق وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. أما رفع الأجور إلى أكثر من 60% من الدخل الوطني فيؤثر سلباً على حجم التراكم (الاستثمار)، مما يضر بالعملية الإنتاجية نفسها.
إن انخفاض نسبة الأجور إلى حجم الدخل الوطني على الرغم من رفع الأجور الاسمية يعني أن الأجور النسبية في تراجع مستمر رغم رفع الأجور الاسمية. وهذا يعني بكل بساطة أن الزيادات المحققة في الدخل الوطني خلال هذه الفترة كانت تحوّل إلى حصة الأرباح. وهذا ما يفسر تراجع مستوى المعيشة للعاملين بأجر وتزايد حدة الاستقطاب الاجتماعي، إذ كان الأجر الحقيقي والأجر النسبي يوغلان في الانخفاض مع كل زيادة جديدة في الأجور الاسمية.
سورية.. بالأرقام
لقد أثرت الأزمة التي تعيشها سورية منذ عامين تأثيراً سلبياً على قطاعات كثيرة، ولكن تأثيرها على العمال كان كارثياً، خاصة مع اتساع ظاهرة التسريح التعسفي للعمال وارتفاع نسب البطالة إلى معدلات غير مسبوقة، وصلت إلى حدود60%، إضافة إلى تدني الأجور. فكانت النتيجة سعي الكثيرين للهجرة بطرق مشروعة أو غير مشروعة. وتزايدت معدلات الجريمة مترافقاً مع انتشار الفساد في مؤسساتنا، فحدث عجز للكثير من الأسر عن تأمين حاجاتها الأساسية، فبلغ متوسط إنفاق الأسرة الشهري عام 2009 حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء 30952 ليرة، تختلف بين الريف والمدينة ومحافظة وأخرى، علماً بأن مدينة دمشق وريفها جاءت في المرتبة الأولى بمتوسط إنفاق شهري وصل إلى 40573 ليرة، وحلت ثانياً محافظة طرطوس وريفها بمتوسط إنفاق شهري بلغ 34686 ليرة، بينما جاءت محافظة دير الزور وريفها في المرتبة الأخيرة بـ24311 ليرة. ومن ناحية ثانية أظهرت الإحصاءات ذاتها أن متوسط الأجور عام 2010 بلغ 11344 ليرة، ارتفع إلى 13844ليرة بعد زيادة الرواتب الأخيرة في آذار 2011 مشكلاً نسبة 45% من متوسط إنفاق الأسرة الشهري.
وعلى الرغم من تلك الزيادة إلا أن الفجوة بين الرواتب والأجور اتسعت والتهمت كامل الزيادة، ولاسيما أن الواقع يشير إلى أن مستوى الأسعار ارتفع أضعافاً مضاعفة بشكل أدى إلى انخفاض قدرة الموظفين الشرائية، لذا ظهرت الحاجة إلى زيادة جديدة في الرواتب والأجور بغية تخفيف معاناة شريحة كبيرة من السوريين.
اجتماعياً
يؤدي انخفاض الأجور إلى حرمان شرائح هامة من المجتمع من أبسط الحقوق الإنسانية في تأمين مستلزمات الحياة الكريمة من مسكن ودخل يتناسب مع مستوى المعيشة وخدمات جيدة، مما يولد الإحساس الدائم والمتصاعد بالغبن لدى هذه الشرائح، ويضعف ارتباطها بمجتمعها. ويتنامى هذا الشعور تدريجياً تحت وطأة أعباء تكاليف المعيشة المتزايدة. ومع تفاقم التفاوت في الدخول تتسع الهوة بين طبقات المجتمع، مما يفرز تناقضات اجتماعية حادة تطفو على السطح بأشكال ومظاهر مختلفة. كما ينعكس انخفاض الأجور سلباً على الاستهلاك والاستثمار والإنتاجية بحيث يصبح عائقاً حقيقياً لنمو الاقتصاد وتنمية المجتمع.
ويمكن لهذه التناقضات أن تنتهي، مع تنامي حدتها، إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتهديد الوحدة الوطنية، الأمر الذي نحصد نتائجه اليوم في الأزمة التي تعيشها البلاد منذ عامين.
وهنا تبرز ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية (التي يؤمّنها تصحيحُ علاقة الأجور-الأرباح) لتحقيق تنمية اقتصادية-اجتماعية مستدامة.
مطلب ملحّ
إن التدخل الحكومي في تنظيم الأجور يهدف إلى تحقيق أهداف اقتصادية على غاية من الأهمية، مثل حسن توزيع الدخل وعدالته سواء للعامل أم لصاحب العمل، تنشيط الاقتصاد وحمايته من الأزمات والهزات الاقتصادية، إذ إن ركود الأجور كان أحد أسباب حدوث الأزمة. لهذا يتوجب على واضعي السياسات في سورية العمل على تحديد الحد الأدنى للأجور للقطاعين العام والخاص وتنظيمها بما يتلاءم مع النمو الاقتصادي ومستوى المعيشة وتطورات الأسعار والتضخم، وضمان مستوى لائق لحياة المواطنين.
والسعي لزيادة الرواتب والأجور بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار التي تشهدها الأسواق السورية والتي تؤثر على تحريك السوق وعجلة الاقتصاد وترفع المستوى المعيشي للمواطن، إضافة إلى إعادة النظر بالدعم الذي تقدمه الدولة، بحيث يتم إيصال الدعم إلى مستحقيه فعلاً سواء المازوت أو الغاز وحتى المواد الغذائية من سكر ورز وغيرها.
وختاماً نؤكد ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية لأنها شرط أساسي لتحقيق تنمية مستدامة ونمو اقتصادي مستقر، فقد أثبتت التجارب التنموية ضرورة عدم التفريط بالتوازنات الاجتماعية (تخفيض معدلات البطالة، حل مشاكل الفقر،عدم ضغط الإنفاق العام الاجتماعي، مراعاة أوضاع ذوي الدخل المحدود) لصالح التوازنات الاقتصادية، إذ إن الموازنة الدقيقة بين التوازنات الاجتماعية والاقتصادية ضرورية لضمان سلامة مسيرة التنمية. وكل خلل في التوازنات الاجتماعية يعصف بالتوازنات الاقتصادية مهما كان تصميمها ماهراً ودقيقاً. ومن جهة أخرى تضمن حق المواطن في الحياة بشروط إنسانية لائقة.
كما ينبغي العمل على ضبط الأسواق بآليات اقتصادية مجدية تضع حداً للفئة القليلة المحتكرة، التي تمتص تعب وعرق العمال والفلاحين، فليس من المقبول أن يتجاوز سعر كيلو البندورة سقف 100ليرة وهي تنتج محلياً100%، علماً أن الفلاح الذي ينتجها لا يتقاضى نصف هذا المبلغ، وينطبق ذلك على الكثير من السلع والبضائع.