مفهوم التعددية الاقتصادية في المرحلة الراهنة (*)
حول مفهوم التعددية الاقتصادية
يستند مفهوم التعددية الاقتصادية إلى عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، وأهم العوامل الموضوعية هي ما يتصل منها بمستوى القوى المنتجة، إذ يواجد في العديد من البلدان ومنها بلادنا جنباً إلى جنب، نمط الإنتاج الصغير في الزراعة والصناعة والتجارة، ونمط متوسط يعتمد الإنتاج الآلي الأولي في هذه الفروع الاقتصادية كلها، ويشق طريقه في مختلف الفروع أيضاً نمط كبير من الإنتاج القائم أساساً على التقنية والإدارة الحديثة، ويتبوأ بسرعة دور قيادة الاقتصاد الوطني، لكونه بالدرجة الأولى يتصدى لإقامة الصناعات الثقيلة الأساسية، كالأسمنت والكهرباء والنفط والنقل العام وغيرها.
ومن حيث النشأة التاريخية، يرجع الصغير من هذه الأنماط إلى مرحلة الإقطاعية وما قبلها، ويمتد الكبير نحوالرأسمالية والاشتراكية، ومن الأهمية أن نؤكد أن الطابع الحاسم في هذه الأنماط يتجلى بكون الأول منها يعيد إنتاج نفسه على نحو بسيط، ودون استغلال يذكر للعمل المأجور، في حين يعتمد الأخير على استغلال العمل المأجور، وإنتاج القيمة الزائدة، ويعيد إنتاج نفسه على نحو متطور وقابل للتوسع.
ووجود هذه الأنماط بنسب كبيرة في المجتمع الواحد، وإقامتها فيما بينها علاقات متشابكة في سوق واحدة إنما يعكس مصالح طبقية محددة تعبر عن الملكيات التي تجسدها. ففي حين لايمكن للإنتاج الصغير، وحتى الأجزاء الواسعة من الإنتاج المتوسط، أن يقوم ويستقر ويؤدي وظيفته الاقتصادية والاجتماعية إلاّ على أساس الملكية الفردية أو العائلية أو التعاونية، تصل الملكية الفردية إلى أوج نشاطها في الإنتاج الكبير، الذي يضيق بوجودها، ويلزمها التحول بأشكال مختلفة إلى ملكية مشتركة، كما في حال الشركات المساهمة، أو إلى ملكية جماعية كملكية الدولة أو الشعب في حال السير في طريق الاشتراكية.
وملكية وسائل الإنتاج هذه، هي الأساس في انقسام المجتمع إلى طبقات وفئات، وبالتالي نشوء وتطور ما نسميه بالتعددية السياسية، أي تعدد الأحزاب والتنظيمات والمفاهيم التي تعكس مصالح متباينة، أو متناقضة، ضمن الوحدة الاقتصادية الاجتماعية التي نسميها السوق الوطنية.
بالاستناد إلى هذا التحليل الموضوعي لتطور المجتمعات، ظهرت فكرة المراحل الانتقالية بين التشكيلات الاجتماعية، مع العلم أن مناقشة مدلول المرحلة الانتقالية في الفكر الاشتراكي لم يتجاوز النواحي السياسية ومواضيع انتقال السلطة وتنظيم المجتمع، ولم تحظَ مسائل التطور الاقتصادي وأشكال الملكية المناسبة لهذا التطور، وما هو محتمل وضروري منها في المرحلة الانتقالية، بالأهمية الكافية والبحث الموضوعي، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً أمام الإرادوية والذاتية المفرطة، وسمح برواج مفاهيم حرق المراحل، بل وتجاوز الممكن والمقبول والضروري، مما أدى إلى ارتكاب الأخطاء، والتطرف اليساري بأشكال مختلفة.
التجربة التاريخية في الاتحاد السوفييتي
بعد انتصار ثورة أكتوبر، وفي مواجهة متطلبات الحياة والبناء السلمية، تنبه لينين إلى متطلبات المرحلة الانتقالية، وبدأ الدفاع عن الملكية الصغيرة والمتوسطة في الريف والمدن على حد سواء. لم يقيّض للينين أن يرسخ هذه السياسة ويدعمها بأساس نظري متين، وتدابير وقوانين واضحة، ولا أن يدعمها بتعددية سياسية كما كان يفترض، بحيث تصبح أول مرحلة انتقالية تعتمد التعددية للانتقال إلى الاشتراكية، لذلك تحولت سياسة (النيب) عملياً إلى مجرد مناورة، يتم فيها بعض التراجع التكتيكي لتهيئة الانقضاض الأكبر والأهم على كل أشكال الملكية الفردية، وخاصة عبر نشر التعاونيات الزراعية في الريف، كل ذلك قبل أن يتوفر الحد الأدنى من الشروط المادية والتقنية اللازمة للإنتاج الكبير.
وبمعنى آخر، لم يتح للينين أن يعدل مواقف ما قبل الثورة بما هو ضروري بعدها، وربما كان أهمها الموقف من ديكتاتورية البروليتاريا، وعلاقتها بالديمقراطية الشعبية، التي قامت على تحالف المصالح بين طبقات وفئات ساهمت في إزاحة الإقطاعية والرأسمال الكبير، وتقبل بقيادة الحزب للمجتمع.
وهكذا نشأ تسطيح للحالة الاجتماعية، ارتدّ بنتائج سلبية على تطور القوى المنتجة، خاصة في الريف، وعلى نشوء سوق وطنية متطورة تضمن التبادل المتكافئ، وتحفز التنوع الضروري في الإنتاج والتجديد، ولم يعوض عن هذه الخسارات الناشئة كل التركيز الهائل على الصناعات الثقيلة والمشاريع الكبيرة التي أقيمت على عجل، وبتضحيات لا توصف.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، توفرت فرصة أخرى للقيام بإصلاح اقتصادي سياسي شامل، بالاستناد إلى تلاحم مختلف فئات الشعب وقومياته تحت قيادة الحزب، وتحقيقها الانتصار على النازية والفاشية، وبدلاً من تطوير وتعميم التجارب الأولى للديمقراطيات الشعبية في أوربا الشرقية للاستفادة منها في الاتحاد السوفييتي، تم العكس، فعُمّمت التجربة السوفييتية، وأجهضت البدايات الأولى للإصلاح، وأخذ الركود يدبّ في التطور الاقتصادي والتقني، ويمتد إلى الحياة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي ساهم إلى جانب عوامل الحرب الباردة في انهيار المعسكر كله.
التعددية في سورية والبلدان المشابهة
بعد الاستقلال، توفرت في سورية شروط أفضل للصناعات الثقيلة. وبدأت هذه بالنشوء في القطاعين العام والخاص، وخاصة بما يساعد في إقامة البنية التحتية للاقتصاد الوطني، في توسيع وتوحيد السوق الوطنية والتداول النقدي والعمل المأجور. وما كان لهذه الصناعات أن تنشأ إلا عبر تطور مجموعة منسقة من الإنتاج المتوسط، الذي يستند بدوره إلى قاعدة عريضة جداً من الإنتاج الصغير.
إن جوهر تلك المرحلة كان يتمثل في أن البورجوازية الوطنية أخذت تنمّي نفسها وتسخر ملكية الدولة بشكل مكثف لتأمين شروط تطورها. وعلى هذا النحو نشأ بشكل عملي ما يمكن تسميته بالتعددية الاقتصادية التي تقودها البورجوازية الوطنية.
لم تدم هذه المرحلة طويلاً لأسباب سياسية واقتصادية مختلفة. وبعد عدد من الانقلابات والتحولات استقرت الأمور في أيدي تجمّع واسع للفئات الوسطى والشعبية من أبناء المدن والأرياف تمثلهم عدة أحزاب اشتراكية وقومية يسارية، تعاونت ثم انتظمت في جبهة وطنية تقدمية يتبوأ حزب البعث فيها مسؤولية القيادة.
ومع أن هذه الأحزاب لم تكن يوماً ضد الملكية الفردية على وسائل الإنتاج إلا أنها مارست في السنوات الأولى على الأقل، مندفعة أولاً بتناقضها مع الملكية الكبيرة في الريف ومع الرأسمال المالي والتجاري، وحتى الصناعي الكبير في المدن، ومتأثرة ثانياً بتجارب الدول الاشتراكية، مارست سياسة معادية للملكية الكبيرة ونفذت الإصلاح الزراعي والتأميم، واتبعت نهج الاعتماد بشكل أساسي على القطاع العام، وموارد الدولة في تنمية الاقتصاد الوطني.
وهذا يعتبر شكلاً آخر للتعددية الاقتصادية، شكلاً يفصل بصورة حادة بين ملكية الدولة للإنتاج والملكية الخاصة في الإنتاج الصغير.
وفي العقد الأخير وتحت تأثير عوامل عدة أهمها:
1- التغييرات الحادة في الوضع الدولي وخاصة انهيار المعسكر الاشتراكي.
2- نضوب المساعدات العربية وتدني موارد النفط.
3- صعوبة الحصول على قروض ومساعدات غربية.
4-تراكم رساميل كبيرة في أيدي السوريين في الداخل والخارج، وبضمن ذلك البيروقراطية المحلية التي تبحث عن مواقع للاستثمار وشروط أفضل لجني الأرباح.
5- الميل إلى الحل السلمي لمشكلة الصراع مع إسرائيل وما يفرضه هذا الميل من تعاون عربي وقبول دولي للوضع في سورية.
كل هذه العوامل وغيرها مجتمعة أدت فيما أدت إليه، إلى ضعف أو زوال مفاهيم اقتصادية سياسية مختلفة، منها وحدانية نمط التنمية، والتحول عبر التأميم ونزع الملكية وديكتاتورية الطبقة العاملة أو قيادتها.. إلخ، كما أدت العوامل ذاتها إلى بروز مفاهيم أخرى مثل أهمية السوق في آلية التطور الاقتصادي، ووحدانية العالم والتعاون الدولي، وأسبقية تطور القوى المنتجة على التحولات الاجتماعية، وحلول التطور التدريجي أكثر فأكثر محل التطور الانقلابي، كما دخلت تعديلات كبيرة على وزن ومواقع مختلف الطبقات في المجتمع.
كل ذلك كان له أثره في سورية، الأمر الذي دعا إلى تأكيد وإبراز شعارين أساسيين يساند الواحد منهما الآخر، هما شعار التعددية الاقتصادية، ومبدأ الاعتماد على الذات.
وقد مهّد لتبوؤ هذين الشعارين لمواقع الصدارة في السياسة السورية طيًّ مرحلة الإصلاحات الزراعية والتأميمات والعداء السافر للبورجوازية، وتقديم الدولة بصفتها قيّمة على مصالح جميع الطبقات، وإدخال ممثليها بأشكال مختلفة إلى مواقع صنع القرارات الاقتصادية.
وبما أن هناك مداخلات أخرى ستتناول هذه المواضيع بشيء من التفصيل يكفي هنا إضافة الملاحظتين التاليتين:
أولاً: لا تزال هذه السياسة في مرحلة تكوينها وترسيخها واستكمالها من مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والتشريعية. يبدو ذلك بالدرجة الأولى من خلال ميل الدولة إلى تلبية طلبات أكثر فأكثر للبورجوازيات المحلية والخارجية، بالرغم مما تسببه هذه البورجوازية من انتقاص لحقوق ومكاسب الطبقات الكادحة واستنزاف لموارد الدولة وهدر للثروة القومية والطبيعية.
ثانياً تتمتع هذه السياسة، بفرص كبيرة للنجاح والاستمرار طويلاً، وذلك على الرغم من تناقضاتها، شريطة عدم ترك قيادة التوازن الاجتماعي تفلت من اليد. إن إشاعة الديموقراطية في المجتمع والحياة الاقتصادية، والتحسين المستمر لأداء مؤسسات الدولة، والتأكيد على طابعها الاجتماعي التقدمي، وإيلاء مستوى معيشة تأهيل العمال والفنيين الاهتمام اللازم، هي من أهم المتطلبات ليس فقط للتطور الاقتصادي السليم، وإنما أهم شروط نجاح سياسة التعددية الاقتصادية أيضاً.
إن حزبنا الشيوعي يؤيد التعددية الاقتصادية ليس كمناورة أوكضرورة ظرفية، وإنما بصفتها الصيغة التي تلبي موضوعياً متطلبات المرحلة الحالية لتطور البلاد. وهو يرغب في تجنيد كل القوى والإمكانات بهدف الإسراع في تطوير القوى المنتجة، وتصنيع البلاد وزيادة الإنتاج والإنتاجية. كما يرغب في إعادة التوازن إلى المؤشرات الأساسية للاقتصاد الوطني ومكافحة العجز المالي والنقدي والتضخم، وغير ذلك من الظاهرات المرضية، إلا أنه يحرص بشكل خاص على مكاسب الطبقة العاملة وبقية الجماهير الكادحة ويسعى إلى توازن اجتماعي لا يمكن دونه تحقيق أي نمو مضطرد أو ترسيخ الوحدة الوطنية أ وتدعيم السياسة الوطنية.
ومن المفيد التذكير أن الفكرة الأساسية الكامنة وراء مبدأ التعددية الاقتصادية كسياسة هي ضرورة الاستفادة من جميع الإمكانات المتوفرة لتحقيق التنمية الاقتصادية.
واضح أن هذه الفكرة مجردة إلى حد بعيد، إذ لا تقول ولا تحدد اتجاه التطور اللاحق والمضمون السياسي الاجتماعي للتنمية. وقد لا يكون من الملزم، أو حتى الممكن، الحديث الآن عن اتجاه التطور اللاحق، ذلك لأن هذا الاتجاه يتحدد من خلال ما يطرأ على موازين القوى داخل البلاد ومن حولها من تبدلات.
ومن هنا بالذات تأتي أهمية انحيازنا وانحياز كل القوى الوطنية والتقدمية إلى جانب القطاع العام ودوره ضمن التعددية، وإلى مكاسب الطبقات الكادحة وحقوقه ودورها في مجمل العملية التطورية. ومن هنا أيضاً حذرنا اتجاه البرجوازية، وخلافنا مع الطفيلية منها، التي تندفع وراء مصالحها الضيقة حتى ولو أدى ذلك إلى المزيد من الاستغلال للفئات العاملة والفقيرة، وإلى مزيد من الهدر بالأموال العامة والثروة الوطنية، وإلى مزيد من التبعية للاحتكارات الإمبريالية.
ولا نخفي قلقنا من أن هذه الفئة بالذات هي الأكثر قابلية من كل فئات البرجوازية السورية للتحول إلى وسيط لمخططات مثل الشرق أوسطية والتطبيع، وغير ذلك مما يهيأ لاقتصادنا وسوقنا.
(*) كتب الرفيق الراحل داود حيدو هذه المقالة في عام 1996 وننشرها اليوم لأهميتها في المرحلة الحالية.