الثالوث المهشّم «الفقر… البطالة… الفساد» (2من2)

وضعت  الأمم المتحدة بعض المعايير والمؤشرات التي تقيس الفقر، إذ قامت بتحديد عتبات الفقر حسب مستوى المعيشة في كل بلد، ولكنها تورد غالباً معدّلاً يطبق على البلدان الفقيرة، مقدّرة عتبة الفقر بمعدّل دخل فردي دون الدولارين في اليوم، ومعتبرة ما دون الدولار الواحد علامة فقر مدقع. ولكن هذه المعايير لا تنطبق على كل البلدان، لاختلاف البنيان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ومراحل التطور الذي وصلت إليها المجتمعات، فيجب أن يكون هناك مقياس خاص لكل بلد يتناسب مع التطور الذي وصل إليه البلد متضمناً الحاجات الأساسية والضرورية المتناسبة مع هذا التطور، وهكذا أصبح الفقر الشغل الشاغل لكل من يملك ضميراً ورؤية إنسانية فهو أبو الأمراض الأخرى الصحية والاجتماعية… فبسبب الفقر يعيش الفقراء عيشة غير صحية في أماكن غير نظيفة، فتنتشر بينهم الأوبئة والأمراض المعدية، ويقعون فريسة أمراض مختلفة، وذلك أنهم لا يملكون مصاريف علاجهم فيستسلمون لهذه الأمراض، وإلى جانب الأمراض العضوية يصاب العديد من الفقراء بأمراض نفسية كردِّ فعل طبيعي لما يعانونه من الحرمان، وهم يلاحظون أبناء عمومتهم يعيشون حياة رغدة بمعنى الكلمة، وبذلك فإن الفقر أساس العديد من الأمراض، وبسببه يحدث الجهل، خاصة إذا كان الفقراء لا يملكون قوت يومهم، فكيف يملكون القدرة على تحمّل مصاريف تعليم أبنائهم، بعد أن تخلت العديد من الدول عن شعار التعليم المجاني بوصفه حقاً لكل مواطن ومواطنة؟

 هذا التخلي سيجعل العلم والتعلم حكراً على الأسر القادرة فقط، ويستمر العجز والفقر عند غير القادرين في الحياة المادية أو العلمية، وهي دائرة مستمرة في ظل السياسات الليبرالية، إضافة إلى انعكاسات الفقر على الجانب الاجتماعي للمجتمع، فالأطفال يذهبون في سن مبكرة للعمل، وندخل هنا تحت مظلة مساوئ إشكال عمل الأطفال.. من الناحية النفسية السلوكية ومن الناحية الجسمانية العضلية…ويتم استغلال الأطفال في أمور لا أخلاقية منها توزيع المخدرات وإتيان الرذيلة معهم.. الرذيلة وفاحشة الزنا التي يكون غالباً سبب انتشارها الفقر والحاجة.. وتأتي بعد ذلك الجريمة، والقتل، والاغتصاب، والسرقة، كلها أبناء (شرعيون) للوالد والجد الأكبر الفقر.

وكذلك يكون هناك افتقار في المجتمع لأهم ميزان في الحياة، وهو حق تكافؤ الفرص الذي يجب أن يكون مكفولاً للجميع، وبمعنى بسيط: أن يكون لكل مواطن بالتساوي الفرصة في التعليم والتدريب وضمان الحقوق الإنسانية والعدل أمام القضاء، وحق فرصة العمل التي إذا تساوت في صورة تكافؤ الفرص.. فليس من المهم بعد ذلك أن يتفوق فلان على فلان، فهو تمايز طبيعي إذا كانت قاعدة الانطلاق متساوية للجميع، فربنا خلقنا غير متساوين: عضوياً وعقلياً، فبدون شك سيكون للمتميزين نجاحات أكثر من غيرهم،كذلك إن الفقر الناجم عن البطالة أو انخفاض الأجور ينعكس بشكل سلبي وكبير على الأشخاص الواقعين تحت تأثيره، وعلى إعدادهم وتنشئتهم في حال كونهم في أعمار لا تسمح لهم بدخول سوق العمل، بحيث ينعكس هذا الفقر على تغذيتهم وصحتهم وخاصة في ظل عدم وجود نظام ضمان صحي شامل، كما ينعكس على الأفراد الذين يبحثون عن عمل ويرغبون فيه ولا يجدونه، من ناحية عدم قدرتهم على تنمية قدراتهم ومواهبهم لصعوبة تأمين الإمكانات المادية للتعلم، وكذلك ما ينعكس على الموارد البشرية العاملة من خلال ضعف الإنتاجية الناتجة عن ضعف التغذية والظروف غير الصحية التي يعيش فيها، إضافة إلى ما تؤثر به على إنتاجية العمل من خلال التغيب المستمر عن العمل بسبب الأمراض. وكذلك يلعب الفقر دوراً كبيراً في عدم إمكانية الأسرة على إرسال الأولاد إلى مدارسهم، أو إخراجهم منها قبل أن يتمّوا تعليمهم، وكذلك يلعب الفقر دوراً في عدم توفر الإمكانات المالية من أجل التدريب والتأهيل للحصول على المواهب والتقنيات والأفكار المساعدة على دخول سوق العمل، إضافة إلى أن الفقر يعني عدم توفر الموارد المالية من أجل استثمار أفكارهم وقدراتهم إن وجدت في مشروعات صغيرة تدر عليهم بعض الدخل وبصورة عامة فإننا يمكن أن نقول إن البطالة السافرة غالباً ما تجلب الفقر، وكذلك فإن الفقر يجلب البطالة في ظل عدم وجود سياسات استثمارية تراعي الحالة المالية للأشخاص طالبي التوظيف، أو في ظل عدم وجود منظمات حكومية واجتماعية هدفها مكافحة الفقر وآثاره السلبية، فالفقر هو الذي يتسبب أكثر من غيره من العوامل المناوئة في ظهور الكثير من المشاكل السلبية مثل أنواع خطيرة من المرض وانتشار الجريمة والعنف. فعلى سبيل المثال يتراوح عدد الأطفال الذين يموتون في العالم تحت سن الخامسة بسبب الجوع ونقص التغذية بين عشرة ملايين واثني عشر مليون طفل في العام.فثمة علاقة قوية إذن بين الفقر والجوع، بمعنى أن الفقر هو سبب أساسي في انتشار الجوع كظاهرة على مستوى العالم، وبالتالي فالمطلوب هو توفير الدخل الكافي عن طريق إيجاد فرص العمل، والقضاء على البطالة، والارتقاء بمستوى التعليم والتأهيل لممارسة الأعمال والأنشطة المثمرة التي تدر الأموال القادرة على تامين الحاجات الضرورية لتأمين مستوى معيشي جيد، إضافة إلى استمرار دور الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال جودة ومجانية الصحة والتعليم والتدريب والتأهيل، وكذلك الانتباه أن النمو الاقتصادي وسيلة وليس غاية وعندما يتحول إلى غاية فليس من الضروري أن ينعكس على المواطنين بشكل عام، وإنما قد يكون عبئاً عليهم، فالمهم هو التوازن القطاعي الذي يؤدي إلى نمو يحقق العدالة الاجتماعية ويحقق نمو مستمر.

 ممّا سبق نستنتج أن الفقر مشكلة كبيرة وخطيرة لا بد من علاجها، وحتى نتمكن من السعي لعلاجها لابد لنا من الإحاطة التامة بها عن طريق معرفة عدد الأفراد الذين يعانون منها، والأسباب المؤدية إليها،كذلك يجب أن تكون الحلول تصحّح الاختلالات التي أدت إلى الفقر، وذلك في صميم السياسات الاقتصادية، لا أن تتعلق بإدارة مشكلة الفقر، وإنما إيجاد الآليات الكفيلة بالقضاء على الفقر، وأن تكون أساليب الدعم مرحلية بينما تتحقق أهداف القضاء عليه استراتيجياً حسب معنى المقولة الصينية:  لا تعطني سمكة ولكن علمني الصيد.

وهكذا نقول: لقد تغير مفهوم الأمن الوطني والقومي؛ ليشمل توفير الحياة الكريمة للأفراد، وهذا جزء أساسي.. والفقر أصبح يمثل سلاح دمار شامل بجانب الأسلحة النووية..

العدد 1140 - 22/01/2025