سلامٌ هيَ…

سماء مشغولة بالأرواح، بل سموات سبع، وكل سماء تتفاخر بمن تحضن، أنبياء وزنادقة، شهداء وقتلى، أبرياء ومجرمين. والأرض تترجرج كل يوم معلنة عن مخاض مستمر. تنقسم الكائنات نصفين، نصف ينام في الأرض أو عليها، والآخر يصعد عالياً، أو يهبط إلى قاع مجهول المصير. انقسام أزلي وفرزٌ كوني منذ بدأ الخلق حتى ينتهي إلى زوال، أو إلى تشكيل آخر.

لمسامات التراب حشرجة لا يعرفها سوى الدم، وللوديان صهيل لا يسمعه سوى تلك الكائنات حول أطراف الأنهار، وعند ضفافها. قبيل الصعود يرتل الأنبياء والشهداء والمظلومون صلواتهم، ويرسل الزنادقة والمجرمون أنينهم المحتوم في الجهات كلها، أنيناً يذكّر الأعماق ويطرق فجواتها، أن افتحي.

البيوت ليست مساكب ورد، ولا الأسطحة مرايا للحسناوات. وإذا كانت المسافات بين الشرفات دروباً مستقيمة تعبرها همسات العشاق، فلا يعني أنها مسافات بريئة، ففيها الكثير من الإشارات الحمراء، تقطع الطريق مترصّدة فرحاً ممنوع عليه العبور، وخلف الستائر المسدلة يقبع ظلم كبير، وربّما موت.

نعرف الأعراس كما نعرف الحروب، نقرأ البراءة على وجوه الأطفال كما نقرأ الوجوه اللئيمة، مع الفروق الطبيعية لمستوى القراءات ولمناهجها. نستطيع أيضاً أن نتخيّل صعود الأرواح الطيبة إلى السموات العلا، كما نستطيع تخيّل انحدار الأشرار في مجاهل الأرض، مع الفروق الطبيعيّة أيضاً لتلك التخيّلات. ينقلنا السرور إليه أحياناً فنفرح، وتسحبنا الخيبات فنغصّ.

حين تشعر وأنت تسير أن خلف كلّ منعطف يترصّدك خنجر، وعند كلّ ناصية شارع يقبع قنّاص، كيف إذاً تتابع سيرك؟ كيف تستطيع؟ وحين تكون منهكاً بحقائبك الثقيلة لن تفكّر ساعة الفصل بالصعود، ولا بالانحدار، ستنشغل بأولادك، وبانتظارهم هداياك، ستُبعِد كل ما يعيق إيصال الأغاني بين الشرفات، ستنظّف الدروب المستقيمة من الإشارات الحمراء، وستنسى حشرجة تراب محتملة.

لو يعرفون أن الدم البشري من أشدّ الموادّ المتفجّرة لاخترعوا طرقاً كثيرة لإنتاجه، ولتكاثرت مزارع العبيد، ولصار خلف كلّ ملهى صالة لممارسة ما يسمونه الحب، وخلفه صالات للتوليد، وللعناية بالمواليد، فقط لو يعرفون! وما أكثر من سيبارك أعمالهم الإنسانية تلك بعيداً عن الأهداف المخبوءة. فكيف لا تغصّ السموات إذاً بروّادها؟! ومجاهل الأرض بالساقطين فيها وإليها؟!

إنها الشراهة، وإنه الفجور، شراهة لالتهام كل ما يستطيعون التهامه، وفجور يحملهم إلى ما لا يتخيّلون، هم كائنات تشبه البشر، لكنها تتحكّم بالبشريّة جمعاء، كائنات بعقول من الشرّ الخالص، يدفعها جشع دون حدود لاختراق كل الحدود، كائنات لها أشكال آدميّة… أشكال فقط. أما الأرواح فهي من الزرنيخ، لذلك سيعود أصحابها إلى منبت أرواحهم، ويتّحدون مع طبيعتهم الأصلية في جوف الأرض المنصهر والمستعر.

ما يحدث على هذه الأرض لا أعتقد أنه حدث يوماً. الأرض التي باركها الله لن تسامحهم، ستعاقبهم الأشجار والأنهار والينابيع، سيقتصّ منهم الماء وقد تغلغل في يباسهم، والاخضرار وقد تجمّد مع النسغ في عروقهم. سيدفعهم هذا الفضاء يوماً صوب مصائرهم، فضاء نثق به. كل ذلك يوم (تُخرج الأرض أثقالها) تتجمّد الأصوات في الحناجر، وتتصاعد الصلوات إلى فوق أغاني ملائكية الصداح، ستنهار مدن وحضارات وبشر، حصون وطغاة، شعراء عذريون وصعاليك. (يوم لا ينفع مال ولا ولد). وحين يتحوّل السيف غصناً، والأنياب أسناناً لبنيّة، يصير الباشق عصفوراً، والذئب أرنباً، حينذاك فقط تصير سلاماً هي هذه الدنيا.

العدد 1140 - 22/01/2025