بطل من هذا الزمان
سجل أبو أسعد اسمه في سجل الضحايا المفترضين للحرب نازحاً، وهو يقيم في ضيعته، مستفيداً من أنه مسجل في قيود محافظة أخرى تعيش أجواء الحرب والدمار والنزوح، بسبب إقامته الطويلة هناك، محافظة فيها حرب ضروس بين أطراف وليس طرفين.
وأصبح يستفيد من معونات المنظمات الدولية والمحلية والجمعيات الخيرية، وهي معونات ضحلة قياسا إلى حاجات أسرة نازحة لا تملك شيئاً في مكان نزوحها، ولا تكفيها مطلقاً، لكنها بالنسبة لأبي أسعد كانت تشكل (زيادة خير) تدعم راتبه التقاعدي ورواتب أولاده وبناته الموزعين والموزعات بين وظائف وأعمال حكومية..فكان يعيش في بحبوحة نسبية في زمن كان فيه السوريون حتى من أبناء الطبقة المتوسطة وبعض سكان الطبقات العليا أيضاً يعانون أزمات الحرب الكثيرة والعميقة وتتدهور أحوالهم.
ولأن الإعانات عينية وليست مالاً سائلاً، صار عند أبي أسعد مخزون كبير لم تعد تتسع له سقيفة منزله ولا فسحات الدار، وبدأت تواريخ صلاحية بعض المواد توشك على الانتهاء.. فخطر للرجل أن يستأجر محل جاره أبي فادي المغلق منذ فترة لبيع مواد الإغاثة تحديداً.. وهي ربح من دون رأسمال.. هكذا أقنع زوجته بأن تتبادل معه الجلوس خلف طاولة البيع وبأسعار منافسة لتلك الموجودة في السوق، من معلبات ومواد تموينية ومنظفات وبطانيات وفرشات و(الذي منو)..
ولأن البضاعة عليها دمغة الجهات المانحة لها فقد أحجم كثير من الزبن عن شرائها، ولم يقصده سوى المضطرين منهم إلى شراء أشياء رخيصة بغض النظر عن مصدرها وجودتها، يسندون أحوالهم السيئة وهم النازحون تحديداً.
هكذا صار في البلدة الصغيرة طابوران من النازحين، واحد أمام مكتب الإغاثة، وآخر أمام دكانة أبي أسعد. وصار بعضهم يسميه مكتب أبي أسعد للإغاثة والتجارة الداخلية وسلخ المستهلك.
بعض موظفي الجهات الحكومية والإغاثية ممن يستطيعون تهريب بعض الحصص وجدوا لدى أبي أسعد سوقاً سهلة ومضمونة لصرف مسروقاتهم، فاضطر الرجل إلى توسيع تجارته وتحويل الدكانة الصغيرة إلى (مخزن الدروايش للمواد الغذائية والمنظفات والبطانيات والشراشف وخلافو).. استأجر لهذا الغرض ثلاثة محلات متجاورة وسط البلدة، وقال الكريم خذ.
اشترى بيتاً في الحي الجديد المسمى حي الفيلات وسيارة، ولم تبق إلا امرأة جديدة ليكتمل (بريستيج) أبي أسعد بعد عمر الشقاء الطويل.. وكانت العروض تنهال عليه، ووجد أجملهن وأصغرهن ابنة صديقه الفاشل المكتفي براتبه التقاعدي مصطفى الرحال.. وبقيت (الختيارة) كما كان يسمي أم أسعد في الحارة القديمة مع (العجيان) من الجيل الأخير معها.. ثم بعد عام ورغم الظروف الأمنية الصعبة وعرقلة الحج قام بالحج إلى بيت الله الحرام، وصار لقبه الحجي دون أي إضافة أخرى.. وصار من بقي من تجار الجملة في المحافظة يرسلون له ما يشاء من بضائع برسم الأمانة دون أن يدفع لهم قرشاً واحداً إلا عندما يريد، وصار مضرب المثل في الأمانة!
وحين أقبلت انتخابات مجلس الشعب والبلاد في حالة يرثى لها، فكر الحاج أبو أسعد بالوصول إلى المقعد النيابي عن مدينته الصغيرة، قائلاً: (شو اللي سبقونا كانوا أحسن منا؟) خاصة أن رجال الأعمال والتجار الأصلاء والمثقفين البارزين قد تفرقوا أشتاتاً، بعضهم خارج البلاد وآخرون في السجون، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. فأقدم على ترشيح نفسه وحصل على توصية من الجهات المختصة بالطريقة نفسها التي يحصل بها الناس على التوصية.. (حط إيدك بعبك وخلي الله يحبك).
أبناء الشعب العظيم أو من بقي منهم يذهب إلى مراكز الاقتراع انتخبوا الحاج أبا أسعد مرشح الفقراء والمحتاجين..فقد قام قبيل الانتخابات بتنظيم حملات تبرع للنازحين والفقراء، وساعد عدداً من أبناء المدينة الأيتام والفقراء في التسجيل بالجامعات والمدارس، بل أرسل طالباً تفوق في البكالوريا على نفقته للدراسة خارج البلد..وهكذا صار الصوت المدوي دفاعاً عن مصالح الشعب.
وبدأ استثماراً من نوع جديد، استفاد من ثقافته الشعبية وصوته العالي في تخويف أصحاب القرار في الحكومة من لسانه السليط، وبدأ يغرقهم بطلبات التعيين في الدولة والاستثناءات وطلبات النقل والتسريح، وكل ذلك بثمنه عند هؤلاء وأولئك.
وتخلى عن العطارة إلى تجارة السيارات بكل أنواعها وأشكالها الجديدة والمستعملة، المسروقة والمخطوفة.
ما زالت الآفاق مفتوحة أمام أبي أسعد للمزيد من العلا، اللهم إلا إذا وصلت الأزمة إلى خواتيمها المأمولة، وانهزم تحالف الفساد وتجار السلاح، واستلم الشعب العادي مصيره، الشعب الذي جوَّعَه وضحك عليه أمثال أبي أسعد ورعاتهم عقوداً من الزمان.