في غصة الروح

لا أدري إذا كان لايزال هناك فسحة في النفس لمحاكاة الروح المنكوءة منذ لعلع الرصاص ودوّت المدافع وبدأ الدم يسيل بغزارة، ووقف الأخ خصماً لأخيه. كنت أحاول أن أُخرِج نفسي من هذه الدوامة وأنكفئ بعيداً وأنزوي محتضناً ذكريات جميلة مضت، ما زال وقعها يفعل فعله في نفسي التعبة الحزينة الكئيبة. فالقهر يكتنف النفوس ويبسط ظلاله على المشهد الاجتماعي برمته ولا يستثني أحداً. في دمشق الياسمين وحلب الشهباء وحمص الوليد وحماة الجرّاح، ومدن الوطن الغالي كافة. لذلك تجدني أحاول جاهداً أن أتماسك وسط هذه الفوضى الدّامية وهذا الضياع الرهيب. تسوقني قدماي التعبتان إلى قلب دمشق، أحتار ويحدوني الأمل عندما أرى هذه الزحمة، وهذا الضجيج الإنساني المتعطش إلى الاستقرار والأمان، وهذا التوق إلى الحياة. أهز رأسي برضاً أتمتم وأنا على حافة الانهيار: (سورية بخير)، وشيء ما بداخلي ينهشني ويهجس بصخب (الأمور ليست على ما يرام).

من أين لنا أن نعرف أن الذين حضن هذا الوطن أبناءهم في كل الأزمنة وأوقات المحن، سيقودون الفتنة، ويؤلبون الأخ على أخيه، ويمدّونه بكل أدوات القتل وضجيج التحريض الذي لا يهدأ؟ كيف لعقلي أن يحتمل مشهد الساسة العرب وهم يجلسون أمام الأجنبي، العدو التاريخي لنا ولهم، ويتلقَّوْن منه تعليمات وخطط دمار سورية وهلاك أبنائها؟ وخطابات العار السياسية التي ينتهجونها ويسوّقون لها في الأروقة الإقليمية والدولية تدمي قلبي، وتطرح ألف سؤال وسؤال: (ما هو الخير الذي يريدونه لسورية وشعبها بعد كل ما فعلوا؟ وما هي المصالح التي سيحققونها إن نجح مشروعهم في تقويض الدولة السورية)؟ (تساؤلات ترهق تفكيري ولا أجد إلا جواباً واحداً فقط: (المستفيد الوحيد هو عدونا، وهم يقدّمون خدمة مجانية له، نتائجها نزيف دم الشعب السوري ودمار دولته). أعود إلى ذاتي وأحاول مرّة أخرى أن أتصنع الهدوء وأسترخي، فتتشنج أعصابي التي اعتادت الأدوية منذ تسللت الفوضى إلى بلدنا. بتُّ أكره فصل الربيع بسبب الربيع الذي تغنّوا به ووصفوه بالربيع العربي، هذا الربيع ما هو إلا خريف دامٍ لم يجلب إلا الويلات والقتل والدمار والتشرد وتفتيت المجتمعات العربية، وإذكاء نار الفتنة الطائفية والمذهبية والعشائرية المقيتة، وذهاب هيبة الدولة والنظم الضابطة فيها كما في باقي المجتمعات البشرية المتحضرة. بعدما كانت الشعوب تعيش بوئام ومحبة فيما بينها وسط بيئة لا تعرف إلا المحبة والتسامح والعيش المشترك بحلوه ومره، ضمن نسيج اجتماعي تجمعه الألفة والمحبة منذ مئات السنين. كيف لعقلي أن يحتمل إعدام الأطفال ومشاهد الذبح وقطع الرؤوس بدم بارد، وإعدام النساء وإلقائهن في البئر، هكذا ببساطة ودون محاكمة دون اتهام حقيقي، دون محام، أو طبيب، أو رجل دين يُلَقِّن، ودون كفن ودون قبر.  مجرد وشاية من حاقد، أو مزاج (مُتَأَمّر مُكفِّر ناقم) أصبح يُعدم الطفل والرجل والمرأة بهذه السرعة وهذه البساطة وكأنهم دجاج، بأَحكامٍ شرعية والدين منها براء.  كيف يدّعون الإسلام والإيمان والحرية والديمقراطية، وهم يرقصون حول الجثّة بعد قطع رأسها ذبحاً بسكين؟ من أين أتى كل هذا الحقد؟ وأين كان يَكْمُن؟ ومن أجَّجَه؟ وكيف يكبّرون ويلفظون اسم الله بعد كل ما يفعلون؟ 

إنها أكثر من الفتنة، وأشدُّ وأكبر من الفوضى، إنها ثقافة همجية جديدة بسفك الدم والتمثيل بالجثث واستباحة كل المحظورات والمحرمات.

 الدم غالِ، وأغلى منه الإنسان وفوق كل هذا الوطن، فهل احترمنا إنسانية الإنسان وحافظنا على الوطن؟!

العدد 1140 - 22/01/2025