كانت الأرض رغيفاً..
كُتبتْ مقالات كثيرة عن الخبز بعناوين مختلفة، من أبرزها (سيّد المائدة)..فالخبز السيّد أول من يجلس على المائدة رافعاً رأسه .. فهو روحٌ، والأرضُ جسدٌ، كما الإنسان روحٌ وجسد.
قال الشاعر إيليا أبو ماضي:
جعتُ والخبزُ وثير في وطابي
والسنا حولي وروحي في ضبابِ
التاريخ شاهد صادق في سجلاّته، كُتبَ جزء منه بأقلام الشعوب الجائعة، الفقيرة، المضطهدة.. وشهد انتفاضات وثورات أطلق عليها اسم (ثورات الجياع) و(انتفاضات الخبز). وتناقلت الشعوب الأمثال عن الخبز، الذي يعدُّ رفيقاً أبدياً للإنسان منذ أن طُحنَ القمح وعُجِنَ بالماء وأصبح خبزاً..!
والعلاقة قديمة بين الخبز والإنسان، الذي تفنَّن في صناعته، وخَبَزه بأشكال هندسية (مدوراً، مستطيلاً، نحيفاً، حلواً، مالحاً، مقرمشاً ….). ولن يقدر أحد من أمراء القمح وملوك المخازن ومالكي آبار النفط أن يفكُّ عُرى الصداقة بينهما.
ومن الأمثال الأمازيغية: (مَنْ يريد الخبز يتحدث عن الفرن) و (احرث يا أخي كي تقضي على جوعك). وفي قصيدة الخبز للشاعر محمود درويش، المهداة إلى إبراهيم مرزوق، هذا المقطع:
كان رساماً وثائرْ
كان يرسم
وطناً مزدحماً بالناسِ والصفصافِ والحرب
وموج البحر والعمال والباعة والريف
ويرسم
جسداً مزدحماً بالوطن المطحون
في معجزة الخبز
ويرسم
مهرجانَ الأرضِ والإنسان،
خبزاً ساخناً عند الصباح
كانت الأرضُ رغيفاً
كانت الشِّمسُ غزالة
كان إبراهيم شعباً في الرغيف.
لقد انقبضت قلوب المواطنين في الأيام الماضية، وأصبحوا يتناقلون ما سمعوا عن رفع الدعم الحكومي وارتفاع سعر كيلو الخبز بعد شهر رمضان. ولم يصدّق معظم الفقراء المضروبين بسياط الفاقة والعَوَز وربما الجوع هذه الشائعات المُغْرضة، فهم واثقون بأنَّ الخبز خطٌّ أحمر خاصة في ظلّ أزمة متفاقمة ومعدٍ بحاجة إلى الخبز المدعوم..! على الرغم من تكذيب الجهات الحكومية هذا الخبر. وقال مهتمون بشؤون الدعايات : دائماً الإشاعات تسبق الإعلانات عن ارتفاع المواد.. ويعدّها آخرون مقدمات لترويض النفوس وتخفيف سقوط نيزك ارتفاع الأسعار على الأرض التي تنبت القمح… ويقول صغار الكسبة والعمال والفلاحون، ومن يعتمد في غذائه على الخبز.. يقول هؤلاء بصوت مرتفع: (الخبز خطّ أحمر..!).
وبعد زمن طويل جداً سمعنا كلمة (العيش)، تتردد في الفضائيات خلال احتجاجات المصريين في 25 كانون الثاني 2011. و(العيش) كما يعرف الناس، هو (الخبز) والكلمة من أصول فرعونية. والمثل المصري يؤكد ذلك: (عُضّ قلبي ولا تعض رغيفي). ولن ينسى أبناء الشعوب العربية وصيّة أجدادهم وآبائهم والأوصياء عليهم، بجمع الفتات من الطرقات والأرصفة وأينما وجدت، وعدم إلقاء الخبز في حاويات القمامة، فهو نعمة من نعم الله الذي خصّها للإنسان..!
الأزمة أفرزت أزمات (رئيسة وفرعية) ومنها (توفير الطحين وتأمين الرغيف)، بسبب نهب وسرقة صوامع الحبوب التي نتج عنها – وهذا طبيعي جداً – ارتفاع أسعار ربطة الخبز التي بيعت أحياناً بمئة ليرة، وفي المناطق الساخنة بيعت بثلاث مئة ليرة.. وتضاعفت أربع مرّات في المناطق المحاصرة.. بل وفُقِد الخبز وأصبحت أعشاب الأرض هي طعام الناس!
عرف المصريون الخبز منذ أكثر من 6 آلاف عام ق.م. وسجّلت البرديات 30 نوعاً من الخبز في عهد الملك رمسيس الثالث. وفي العصر القبطي كان الخبز يقدم قرابين في الكنيسة. وتزخر المسيحية بالرموز المرتبطة بالخبز. وأبدى المصريون القدماء احتراماً عظيماً للخبز باعتباره سند الحياة. وأنَّ (أوزير) هو الذي أوجد الخبز كما تقول الأسطورة. وتشير النصوص الدينية إلى العلاقة بين الحبوب (القمح والشعير)، وبين (أوزير)، الذي تنبت من جسده هذه الحبوب. وقد ذكِر اسم هذا الإله مقترناً بأحد أسماء الخبز وهو (أح).
يقول السيد المسيح: (أعطنا خبزنا كفاف يومنا.. أنا الخبز النازل من السماء.. أنا هو خبز الحياة). وهذا يؤكد أهمية الخبز في حياة الإنسان مهما فُسّر (مادياً أو لاهوتياً وروحياً).
الخبز والماء صديقان أبديان لم يفترقا منذ آلاف السنين، ودون الماء لن يعجن الطحين ويخبز في الفرن.. وتفوح رائحته العبقة ويتزاحم الناس لشرائه.. فالمائدة تنتظره ودونه لن تكتمل! وعلينا أن ندافع عنه وأن يظلَّ مدعوماً ومصنوعاً من قمحنا..!