الثالوث المهشم «البطالة» (1من2)
البطالة باختلاف أنواعها: الظاهرة، المقنّعة، الدورية، التقنية، الموسمية، هي مرض خطير ينشأ عنه تكاليف اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية تختلف باختلاف البنى المختلفة للبلد المدروس، سواء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ودرجة التنمية والمستوى الذي وصل إليه.
ولتشخيص هذا المرض، لابد من الاستناد إلى بعض المعطيات الإحصائية. ففي عام 2007 كان هناك (14) مليوناً في سوق العمل، منهم (50%) ناشطون ومنهم (5,1) مليون أنثى، وكانت نسبة (52%) منهم في الخدمات و(19%) في الزراعة و(14%) في الصناعة و(15%) في الإنشاءات، وكان مستوى التوظيف في القطاع العام 6,28%عام 2008 و(2,27%) عام ،2003 والمستوى العام للبطالة (7,9.%)و ارتفع إلى (9,10%) عام 2008 وفي الفئة
(20-40) عاماً هو (22%).
وكان ازدياد نسبة البطالة بشكل كبير بسبب قلة فرص العمل التي يحتاجها القطاع العام من جهة، وعدم استطاعة القطاع الخاص توظيف إلا أعداد قليلة، ذلك أن الأرقام المتداولة من قبل الجهات الرسمية تقر بأن نسبة البطالة وصلت إلى 11% في عام ،2009 بينما الإحصاءات غير الرسمية تقدرها ب20% وهناك إحصاءات أخرى تقدرها بأكبر من هذا الرقم. وتختلف الأرقام باختلاف تعريف العاطل عن العمل الذي يستخدم في المسح، وأحياناً يختار هذا المعيار أو ذاك بما يضمن تخفيض النسبة ومهما يكن نستطيع القول إن مابين 200 – 250ألف طالب عمل يدخلون إلى سوق العمل سنوياً، وإذا كانت قدرة القطاع العام تتراوح بين 40- 60 ألف فرصة عمل، والقطاع الخاص أقل منها، فتراكمياً نستطيع أن نتخيل عدد العاطلين عن العمل. هذا إضافة إلى الأنواع الأخرى من البطالة ومعدل الإنتاجية للقائمين على رأس عملهم، وهكذا تكون الكثير من القوة البشرية السورية المتاحة عاطلة عن العمل،و يعد هذا من الأسباب الرئيسية في تدني متوسط إنتاجية العمل في سورية قياساً إلى مثيلاتها من البلدان المتوسطة الدخل. وما نستطيع تأكيده أن معدل البطالة بكل أشكالها مرتفع جداً في سورية،الأمر الذي انعكس على تطور الإنتاجية انعكاساً سلبياً، والسؤال المطروح هنا: كيف يمكننا دراسة ظاهرة خطيرة كالبطالة ومحاولة الوصول إلى حلول لها، في ظل غياب معطيات دقيقة وواقعية؟ ويترتب على انتشار وتفشي ظاهرة البطالة في المجتمع مجموعة من الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والديمغرافية، فهي تمثل ظاهرة هدر واستنزاف لأهم مورد من موارد بناء واستمرارية التنمية بجميع أشكالها الذي هو العنصر البشري، فالبطالة بجميع أشكالها تمثل هدراً لهذا المورد.
فالبطالة السافرة تمثل عدم استطاعة الموارد البشرية الراغبة في العمل والباحثة عنه المشاركة في العملية التنموية رغم الأموال التي أنفقتها الحكومة من أجل تهيئة وتنمية هذه الموارد بتعليمهم والمحافظة على صحتهم، أو أنفقوها هم وأسرهم، و هذا يمثل هدراً كبيراً لهذه الطاقات. وكذلك فإن البطالة المقنعة تشكل حاجزاً بين هذه الموارد من جهة وتطبيق المهارات والخبرات المكتسبة في العملية التنموية من جهة أخرى، والبطالة سبب رئيسي للأمراض النفسية والجسدية، تقول مجلة (نيوساينتست) البريطانية العلمية بأنه (في عام 1995 كان هنالك مليارا شخص معرضين للإصابة بمرض السل في العالم بسبب الفقر، وسوء التغذية، والزحام في المساكن، والسجون غير الصحية، وخاصة بسبب البطالة، المسبب الرئيسي لمرض السل لأنها تطيل مدة مكوث العاطل عن العمل في المنزل، وتمنع دخله وتزيد فقره).
وهذا ما يجعل الفرصة للإصابة بالمرض أكثر، نظراً لخطورة المرض على المريض والساكنين معه. وهنالك 2% من المشردين في مدينة لندن مصابون به، فإذا كان هذا المرض ينتشر بهذه النسب في الدول المتطورة فكيف الأمر بالنسبة للدول النامية؟!
كذلك تسبب البطالة أمراضاً اجتماعية خطيرة، ذلك أنها تجعل العاطلين عن العمل يشعرون بالإحباط واليأس القنوط وعدم الانتماء للوطن، وهذا ما يؤدي إلى انتشار الأمراض الاجتماعية الكثيرة كالجريمة والدعارة وتعاطي المخدرات، ويصبح هؤلاء المتعطلون ذوي مناعة قليلة اتجاه المجموعات التي تحاول النيل من الوطن، وتزداد حدة تأثير هذه الأمراض كلما طالت الفترة التي يبقى فيها الشخص عاطلاً عن العمل، ويكون التأثير أكبر على الطبقات الفقيرة والنساء.
وكذلك تؤدي البطالة إلى حدوث الانحرافات الفكرية والشعور بالحقد والكراهية والبغضاء نحو الطبقات الغنية، وكلما طالت الفترة التي يقضيها الفرد عاطلاً عن العمل قلل ذلك من المواهب الفنية والعقلية للعامل، وكذلك يفقد العامل ميزة التعود على العمل وإتقانه وينحط مستواه. وقد أدى ازدياد حجم البطالة في بلدان العالم الثالث إلى ارتفاع نسبة المتطرفين والإرهابيين والأصوليين من الفقراء المحرومين إلى 82%. وكشفت دراسة أمنية عام 1997 أجراها الأمن العام في مصر عن تزايد معدل جرائم الجنايات التي يرتكبها العاطلون عن العمل إلى مجموع جرائم الجنايات خلال الفترة 1985- 1996 من (6,7 %) إلى (7,19%)، وهي تشتمل جرائم القتل والضرب، التي أدت إلى الموت والخطف والاغتصاب والسرقة، وارتفع معدل المتعطلين لجنح السرقات من 5,30% إلى 50%، وارتفعت معدلات الانتحار والشروع فيه من العاطلين بنسبة 6,18%، إذ ازداد من 8,28% إلى 4,47 %. وكذلك نتج عن ارتفاع معدل البطالة في اليمن الكثير من المشاكل الاجتماعية، كجرائم السرقة وأحداث شغب كثيرة حدثت في الربع الأخير من عام 1992.كذلك تسبب البطالة تأخر سن الزواج بالنسبة للإناث وللذكور، وبالتالي خلق مشكلة اجتماعية خطيرة لم تكن معروفة سابقاً في المجتمع هي مشكلة العنوسة التي قد تؤدي أيضاً إلى أمراض اجتماعية خطيرة تتمثل بالدعارة، أو الاغتصاب أو الاكتئاب.
ومجمل هذه الآثار السابقة تخفف من طاقات الفرد الذي يصاب بالمرض النفسي أو بالأمراض الاجتماعية السابقة، وتؤثر سلباً على هذا الفرد وعلى قدراته في العمل مستقبلاً، وكذلك على قدرته على الاندماج الاجتماعي، وبالتالي تخفض من قدرته الإنتاجية.
وكذلك يؤدي انتشار ظاهرة البطالة في الريف في حال وجود الفجوة بين تطوره وتطور الحضر إلى حدوث هجرة من الريف إلى المدينة، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث ضغط على الخدمات والبنى التحتية إلى ضغط على فرص العمل في حال توفرها، كذلك تؤدي ظاهرة البطالة إلى هجرة الكفاءات العلمية والكفاءات الفنية. فالبطالة السافرة عموماً تعني خسارة الدخل بشكل كامل في البلدان التي لا تحتوي أنظمة حماية اجتماعية، تلك الأنظمة التي تقدم معونات اجتماعية على شكل دخل محدد ريثما يتمكن الفرد من إيجاد فرصة عمل،و بهذا الأسلوب تعوض خسارة الدخل الناجمة عن البطالة بصورة جزئية وبحل مؤقت.
أما في البلدان التي لا تمتلك تلك الأنظمة الاجتماعية والتي منها سورية، فالبطالة تعني الحرمان الكامل من الدخل إضافة إلى ما لها من نتائج بعيدة المدى كالأضرار النفسية، وفقدان حافز العمل والمهارة والثقة في النفس،و ازدياد العلل المرضية (بل وزيادة معدلات الوفيات)، وإفساد العلاقات الأسرية والحياة الاجتماعية، وقسوة الاستعباد الاجتماعي، وتفاقم التوترات العرقية والتمييز بين الجنسين. إن نقص الدخل أو انعدامه للمتعطلين شرط مسبق قوي لحياة فقيرة، فالحرمان النسبي من الدخل أو الحرمان الكلي يمكن أن يفضي إلى حرمان مطلق من القدرات الجسدية والنفسية والمالية والمادية، تختلف طبقاً للأسرة التي ينتمي إليها الفرد المعني، وما إذا كانت تمتلك من المال والثروات ما يعوض هذا الحرمان، فالعلاقة بين الدخل المنخفض والقدرة المنخفضة متغيرة بحسب الأسر المختلفة والأفراد المختلفين (إذ إن أثر الدخل في القدرات مشروط ورهن بأمور أخرى)، فتبعاً لذلك فإن الفقر الناجم عن البطالة أو انخفاض الأجور ينعكس انعكاساً سلبياً وكبيراً على الأشخاص الواقعين تحت تأثيره، وعلى إعدادهم وتنشئتهم في حال كونهم في أعمار لا تسمح لهم بدخول سوق العمل، بحيث ينعكس هذا الفقر على تغذيتهم وصحتهم، وخاصة في ظل عدم وجود نظام ضمان صحي شامل،كما ينعكس على الأفراد الذين يبحثون عن عمل ويرغبون به ولا يجدونه من ناحية عدم قدرتهم على تنمية قدراتهم ومواهبهم، لصعوبة تأمين الإمكانات المادية للتعلم.