أبو فياض… وذكريات شيوعية زبدانية
قبل نهاية حكم الديكتاتور أديب الشيشكلي بنحو ستة أشهر، انتسب الرفيق عبد الجليل بحبوح (أبو فياض) إلى الحزب الشيوعي السوري عن طريق الرفيق المدرس نصر الدين البحرة، الذي كان يدرّس اللغة العربية في إعدادية (أبي الخير القواس)، وهي الإعدادية الوحيدة يومذاك في الزبداني. وعن طريقه انتسب إلى الحزب حينذاك عدة رفاق منهم حبيب الطباع ويوسف يعقوب ويوسف حبيب وغيرهم.. وكان في السجن يومذاك ثلاثة رفاق من الزبداني هم: عبدالله نكد، ومحمد ثابت، ومحمد عبد القادر رمضان، وهم مسجونون بتهمة جلب مطبوعات للحزب من لبنان وتوزيع منشورات في دمشق. حينذاك كنا نجتمع في بيت الأستاذ نصر الدين البحرة المستأجر من أبي مراد الغزاوي، أو في بيت المعلم جوزيف نصر الله، الذي كان شيوعياً مع كل أولاده وهم الرفاق إيلي نصرالله، حنين نصرالله، هدى نصرالله. وأعتقد أن الزبداني حينذاك كانت محطة رئيسية لجلب مطبوعات الحزب وتهريبها عن طريق قرية (رعيت) اللبنانية. كان مسؤول المنظمة الرفيق نصر الدين البحرة، وقد تعرض يومئذ لعدة تهديدات من القوى المناهضة والرجعية.
ثم أطيح بعهد الطاغية الشيشكلي وخرج رفاقنا من السجون، واستمر الرفيق نصر الدين البحرة يقود المنظمة عدة أشهر أخرى، ثم انتقل وظيفياً إلى دمشق. وأتى بعده الرفيق عبد الجليل بحبوح، وكان قد عيّن معلماً في المدرسة الابتدائية في الزبداني، واستلم قيادة المنظمة.. وكانت البلاد قد تحولت إلى عهد ديمقراطي من أجمل العهود التي مرت على بلادنا.. وعاشت سورية في ذلك العهد حالة من الجيشان السياسي والديمقراطي.
وشاركت المنظمة تلك الأيام في مظاهرات عديدة في دمشق مع غيرها من منظمات الحزب، لتحقيق عدة حقوق مطلبية وعمالية. نمت المنظمة في تلك الأثناء وكبرت وانضم إليها رفاق عديدون، وفي الذكرى الأولى لسقوط الديكتاتورية أصدر الحزب بياناً هاماً يحيي هذه الذكرى ويشيد بالديمقراطية التي تحققت، وبالشعب السوري. وبالنسبة لتوزيع البيان المذكورة في الزبداني، فقد اجتمعت اللجنة الفرعية يومذاك وقررت كيفية توزيعه.. وفي يوم الخميس جمعني الرفيق أبو فياض مع الرفيق حنين نصرالله وأخبرنا بأن علينا غداً الجمعة توزيع بيان الحزب بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، وذلك على باب المسجد لجميع المصلين، وأنه يجب وقوف رفيق على طرف من طرفي باب الجامع، وأن هذا قرار الفرعية، وإذا تعرض أحد منا إلى أي حادث فسيقف عدة رفاق على الطريق للمساعدة.. وهكذا كان. ولقد قمنا بهذه المهمة على أتم وجه ولم نتعرض لأي حادث.. ولقد قرأ بيان الحزب عدة مئات من أهالي الزبداني حينذاك. هذه الحادثة – توزيع بيان الحزب على باب المسجد، وفي يوم الجمعة- أولاً أعطت الحزب مكانة مرموقة بين أهالي الزبداني، وثانياً كشفت عن متانة الديمقراطية التي جاء بها النظام التعددي البرلماني، الذي أقيم في سورية حينذاك. وثالثاً أعطت منظمة الحزب هيبة وقوة بين القوى السياسية الموجودة في المنطقة، واستمر الناس يتحدثون عن ذلك زمناً طويلاً.
اشتهر أبو فياض في الزبداني بتكوين صداقات عديدة مع الكثير من أهلها، فكان شخصية اجتماعية محببة.. كان بسيطاً طيباً، عنيداً في الدفاع عن الحزب ومبادئه، يهتم بأمور الرفاق، محباً للرياضة والرحلات.. مهتماً بأمور الثقافة والصحافة، كان يزود المنظمة بصحف عدة، ويطلب من الرفاق قراءاتها وقراءة الكتب الثقافية من أدبية وسياسية.
سكن أبو فياض في محلة عين جابر في الزبداني، وهي ليست بعيدة عن بيتنا، فكان يزورنا ونزوره. أحب الزبداني، وكنا نقوم بمشاوير يومية على طريق النابوع والجرجانية وبقين أو إلى بساتين السهل، حيث بستان الرفيق عبدالله نكد (أبي جورج) ونمضي بعض (العصريات) الصيفية.
أحببت الحزب أكثر فأكثر خلال علاقتي الحميمة مع الرفيقين نصرالدين البحرة والرفيق أبي فياض.. واستمرت علاقتي الإنسانية وطيدة جداً مع الرفيقين، عدا العلاقة الحزبية. نمت هذه العلاقة واستمرت سنين عديدة، وأعتقد أن الرفيق أبا فياض انتقل وظيفياً من الزبداني منتصف عام ،1957 وأصبح مسؤول المنظمة بعده الرفيق بطرس أبو شعر (أبو سليمان). ودّع الرفاق في الزبداني الرفيق أبا فياض بحفلة وسهرة جميلة، كذلك وُدّع الرفيق (أبو عمر) نصر الدين البحرة عندما نقل من الزبداني.
فقدَ الحزب بفقد الرفيق أبي فياض مناضلاً صلباً، أعطى حياته للحزب، وترك في نفوس رفاقه وأصدقائه وعائلته أثراً لن يمحى.