الاصطفاف والمصادرة.. بين خطابين

حين قلت في ردي على الكاتب المذكور، (النور، العدد 605)، إن المثقفين الذين يعبرون عن إدانة العنف من أي جهة صدرت فإن رأيهم  خدمة للنظام، اعتقدت أنني أقوم بواجب المواطن الصالح أو العاقل الذي ينطلق من رفض العنف، ولا يؤمن به وسيلة ولا خطاباً لتحقيق غايات وطنية داخلية. فالعنف مبرر ومطلوب في مواجهة عدو خارجي طامع بالوطن. أما ابن الوطن الطامع بتحقيق مكسب سياسي داخلي، فليس لائقاً به، ولا مبرراً له وطنياً، أن تكون وسيلته العنف ضد أبناء وطنه، من كانوا في السلطة أو خارجها. ولا أزال مقتنعاً أن الحراك الذي جرى في سورية، لو بقيت فيه المعارضة خارج دائرة العنف، لكان قد حقق الكثير من مطالبه، دون الوصول إلى هذا الحد من الدمار والضحايا، وذلك لرغبة الناس في الخروج من كثير من الاستعصاءات (الحريات السياسية والتنمية ومحاربة الفساد والبطالة…)، ولوجدنا أن التفاف الناس، جميعاً، حول الحراك، كان سيحقق النتائج دون الوقوع في هذا العنف المدمر، ولكانت إدانة الجميع للعنف الذي تمارسه السلطة هي الحاسمة للموقف والاصطفاف. لكن لجوء المعارضة للعنف غيَّر المعادلة. وهنا تبدو كذبة الحراك السلمي في بدايته مفضوحة بأدلة كثيرة يتغافل عنها من يتحدثون في الموضوع بتصميم مسبق.

المحاولة التي حاولها الكاتب لمصادرة رأي من يختلف معه في الرأي، بدت مرفوضة، خاصة وأنها تنحاز لجهة العنف الذي انخرط به الخارجون ضد السلطة. وتبدو المفارقة شديدة، ومصادرة الرأي تامة، عندما نجد أن الطرف الآخر المساند للسلطة، أو رأي بعض من يستبطنون ويمثلون رأيها، يحاصرون أو يصادرون الرأي بالطريقة ذاتها التي ينتهجها من يؤيدون الجماعات المعارضة العنفية.

أين يتوجه صاحب الرأي الذي يحاول إيجاد طريق لا عنفي يحدد قواسم مشتركة بين الأطراف التي ارتفع عنفها المرفوض فوق المعقول، في حين يجب أن يكون القاسم المشترك بين الطرفين، رفض العنف في العلاقة الأخوية الوطنية، وفي حال نشب، يجب وقفه فوراً، لأن نتائجه تصدم العواطف والعقول والإرادات والإمكانات، إذا رفض الطرفان موقفه؟

كاتب من اتجاه مقابل، يستخدم الخطاب ذاته ويتبنى الرأي ذاته الذي أدنّاه، ويرى في إدانة العنف عامة تأييداً مرفوضاً لعنف المعارضات، ولا يخدم القضية. فالكاتب (قاسم الفاروق) في مقال له على صفحات (الفكر السياسي) (العدد 48-،49 ص145) يرى أن (لا أولوية مطلقة للحراك الوطني بعامة وحراك الصمود بخاصة غير أولوية حماية البلد والمجتمع) وهذا نهج وطني لا خلاف عليه بل نؤكده بشدة. لكنه يتابع أن الأولوية التي يتحدث عنها (تلتزم الوقوف الساند القوي مع الدولة ومؤسساتها العسكرية الأمنية، والتوقف عن أي حراك معارضاتي أو انتقادي)، وهنا نقول إننا وبمنطق الالتزام الوطني يجب أن نكون مع القوى والمؤسسات التي تحمي الوطن والمواطن، ما دامت تقوم بدورها، لكن القول إن من أشكال هذه الحماية، التي تعد أولوية، أن يتوقف حراك المعارضة والنقد، فذلك ليس موقفاً وطنياً جديراً بالاصطفاف معه، لأن المعارضة الوطنية الفاعلة، غير العنفية ولا المرتبطة بالأجنبي ومخططاته تعد ضرورية للعمل السياسي السليم والمعافى، والسلطات تقرأ الكثير من ضرورات توجهها في مواقف وأفكار المعارضات الوطنية في كل بلدان العالم ذات النظم أو التوجهات الديمقراطية، ما يبرز أهمية المعارضة الفاعلة لضمان نجاح السلطة، بل والدولة.

1- مصادرة الرأي والموقف لصالح اتجاه واحد في الوطن تحت أي ظرف، أمر لم نسمع أن الفكر العقلاني ولا مصالح الأوطان ولا القوى الوطنية تؤيده. وفيما ذكره الفاروق نسف لأي توجه سياسي أو وطني خارج عما يراه، والمصادقة على هذا الرأي غير ممكنة، فمن حق الناس إبداء الآراء، سواء كانت موافقة أو مخالفة لنا.

2- المواقف الأحادية الاتجاه التي تسعى لمصادرة رأي غيرها أو إعاقته، لم تثبت عقلانيتها ولا وطنيتها في أي من بلدان العالم، بل لقد نجحت البلدان والسياسات التي سمحت بالتنوع الفكري والسياسي في إيجاد المخارج لمآزقها وتجنبت العنف، والأولويات في أوقات الأزمات لا تنحصر في رأي واحد ولا في التوقف عن النقد الفاعل الملتزم، الذي يرفضه الكاتب كما يرفض المعارضات.

3- نذكّر أنفسنا والكاتب معاً، بأن الخلافات التي تجري بين السلطات ومعارضاتها في كل بلدان العالم، لا تذهب بالمتقابلين إلى أن يصفّي بعضهم البعض الآخر، بل تجعلهم يلجؤون إلى توافقات وقواسم مشتركة يتفق عليها وطنياً، ويؤسس عليها لإيجاد المخارج للانسدادات. ولا نعتبر الوقوف أو الانتصار لرأي واحد وإلغاء غيره من الأمور التي تساعد الأوطان في الخروج من مآزقها، ولا في بنــــــــــاء أوطـــــان سليمة أو قادرة على تجاوز إعاقاتها. والوطنية تحتـــــاج إلى تداول الآراء.

4- مستغرب جداً عدم رفض الاستبداد معطوفاً على رفض التدخل الأجنبي، فرافض الاستبداد في صلب الوطنية لا خارجها، مثل رافض التدخل الخارجي، والإدانة للأمرين المعطوف أحدهما على الآخر دليل كارثيتهما معاً، ولو سألنا القوى السياسية التي ترى الآن ضرورة التوجه نحو مزيد من المشاركة الديمقراطية عن موقفها من الاستبداد، فلا أظن أنها ستعلن رضاها عنه أو تدعو إلى عدم رفضه. أما اعتبار الكاتب أن رفض الاستبداد يجب ألا يكون مقروناً إلى رفض التدخل الأجنبي كما يفهم كلامه، ما يشي أنه يؤيد الاستبداد لأنه لا يعقل أن يكون مع التدخل الخارجي حسب منطقه، وهذا لا يجعلنا في الوقت الراهن إذا التزمنا هذا الرأي، قادرين على الانخراط في حراك سياسي وثقافي يخرجنا من الأزمة أو من الإعاقات والاختناقات. وإذا كانت الأولوية لرفض التدخل الأجنبي كما نرى، فإن رفض الاستبداد ضرورة أيضاً.

5- هل نحن معجبون بما يجري من عنف في بلادنا وبنتائجه؟ لا أظن أحداً يقول ذلك. ومهما كانت أمنياتنا في أن يكون طرف قادراً على حسم الموقف لصالحه، فإن ذلك سبيله تحقيق مزيد من الدمار، وقد ظهر العجز عن ذلك، والإصرار على العنف يعني تدمير ما تبقّى من البلاد، فهل يرضي هذا أصحاب المواقف التي ترى في رفض العنف من الطرفين حماقة أو قلة وعي وضعفاً أو تراخياً مع طرف دون آخر، أو انتهاكاً لحقوق الوطن والمواطن؟

خيارات المثقف أو صاحب الرأي:

1. رفض العنف من أية جهة صدر.

2. تأييد العنف أياً كان مصدره.

3. رفض عنف السلطة وتأييد عنف المعارضة.

4. رفض عنف المعارضة وتأييد عنف السلطة.

وإذا كان مطلوباً من الناس، خاصة المثقفين والعقلاء والكتّاب، اختيار أحد هذه الخيارات، فإني كمواطن لا يداخله شكّ بوطنيته، التزم الخيار الأول، ذلك أني أرفض أن يكون اللجوء إلى العنف هو الحل لمشكلاتنا ومآزقنا، لذا أدعو إلى وقف العنف ونبذه، وسأكون حزيناً إذا علمت أن عاقلاً إنحاز إلى أحد الخيارات الثلاثة الأخرى، لأنه سيكون في حالة تأييد للعنف مطلقاً، لأن تأييد عنف جهة ما، يعني تبادله مع غيرها، مما لا يخرج العنف من ساحة العلاقة التي يجب أن تحسم فيها الخلافات بأساليب أخرى.

والسؤال الموجه لأنصار الاتجاهين من المثقفين اللائمين لغيرهم من رافضي العنف عامة، إذا كانوا لا يرفضونه من قبل من ينحازون لهم في هذا المجال: ما الفارق بينكم وأنتهم تهاجمون من يرفض العنف عامة، وأنتم على ضفتين متقابلتين؟ وإذا كنتم قادرين على الموقف المشترك بينكما وهو عدم رفض العنف، فلماذا لا تؤسسون لحقول مشتركة أخرى بينكما، يكون فيها فائدة للوطن أكثر، مثل الفكرة التي دعوت إليها منذ عام (الحق في الخطأ والمخرج الممكن)، أي أن يكون المشترك في هذه الحالة، هو الاعتراف بالخطأ بحق الوطن وبحق بعضنا، من قبل الجميع، ولنؤسس على هذا مخرجاً نتوب به إلى الوطن مما اقترفنا، فهو أقل كلفة من مشترك عدم رفض العنف بالمطلق، ولأن التزام أي من الخيارات الثلاثة الأخرى يعني بقاء العنف هو الخيار المنتشر، ليس من جهة واحدة بل من الجميع، فأي خيار يجر غيره.

العدد 1140 - 22/01/2025