وداعاً أيها الفنان الكبير ممتاز البحرة
يوم الخميس الواقع في 19 كانون الثاني، يفارق الحياة أحد أبرز الفنانين التشكيليين في سورية، يفارق الحياة رسام الكاريكاتور وابن دمشق ممتاز البحرة، المشهور لا على الصعيد السوري فقط، وإنما على الصعيد العربي، بعد حضور متميز في ساحة الثقافة السورية لأكثر من ستين عاماً، تاركاً وراءه إرثاً إبداعياً وإنسانياً لا يمحوه الزمن.
لقد دخل الحياة الثقافية من الباب العريض منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو لا يزال يافعاً بعد. وقد كانت رسومه السياسية والاجتماعية الساخرة تملأ صفحات الجرائد التقدمية آنذاك.
في منتصف الخمسينيات كانت سورية الناهضة تتعرض لمؤامرات خارجية مستمرة هادفة لضرب استقلالها من خلال إلحاقها بالأحلاف الاستعمارية الرجعية، وكانت الحركة الوطنية ناشطة بصورة واسعة.. كان الحزب الشيوعي السوري مع غيره من الأحزاب الوطنية قد خرج للتو إلى العلن، بعدما تحررت البلاد من سيطرة الأنظمة الديكتاتورية التي سادت في البلاد لعدة سنوات، والتي برز فيها الحزب مدافعاً صلباً عن الحريات الديمقراطية وعن مصالح الشعب الكادح.. ونتيجة ذلك استقطب فئات واسعة من الشباب الذين رأوا فيه معبراً عن المستقبل الذي يطمحون إليه..
إن ممتاز البحرة الشاب ابن العائلة الوطنية، المتقد بالشعور الوطني، وجد نفسه ينجذب إلى صفوف هذا الحزب الشاب، مؤثراً في مجموعة من شباب الحي الذي يسكن فيه، تعرفت به في ذلك الوقت، أنا ابن الريف الذي جاء إلى المدينة الغريبة بالنسبة له، ويملؤه التحفظ الطبيعي، من خلال الانتماء المشترك، كان أميناً لفرقتنا الحزبية الشابة، وتدريجياً، ومن خلال الاحتكاك اليومي به، بدأ هذا التغرب يزول تدريجياً. كان يتميز بإنسانية عميقة لا تعبر عنها ملامح وجهه المتجهمة، وكانت لديه قدرة كبيرة على الاستقطاب، وقد مارس تأثيره على قطاع واسع من شبيبة ذلك الشارع، بحيث أصبح يسمى الشارع الأحمر.
لسنوات عدة كنا نلتقي يومياً، بيد أن تطور الأحداث في البلاد قد فرقت بين الأصدقاء. التقيت به بعد سنوات في موسكو حيث كنت أتابع الدراسة، وكان قد أصبح أحد الأعلام البارزين في البلاد في مجال الفن التشكيلي، ويحدثني عن سورية وآفاق تطورها وعن ذكريات الماضي، والرفاق والأصدقاء.. ويعود إلى الوطن، ألتقي به مرة أخرى في أوائل الأزمة السورية، أفاجأ بمجيئه مع صديق آخر إلى منزلي، يدخل والسرور باد في وجهه، يقضي ليلته لدي، ويتحدث في حرقة ومرارة عما حل بسورية، وعن الدم المراق.. كان حزنه عميقاً عميقاً، وألمه كبيراً لدرجة البكاء.
أزوره في دار السعادة بعد ذلك مرات عديدة، بيد أن حزنه العميق والدفين في أعماقه كان يرتسم على وجهه المتعب، لم يكن يستطيع وهو الفنان المرهف، أن يتحمل ما جرى ويجري في البلاد.
لقد فارق الحياة هذا الفنان الموهوب، تاركاً لنا إرثاً إبداعياً، دخل في التراث الإبداعي والتقدمي للشعب السوري المقدام والمحب للحرية، والذي سيبقى حياً، ودائماً أيها الصديق العزيز ممتاز البحرة.