حرية الاختيار

هكذا يبرز السؤال بقسوة: لماذا تبقى حرية الاختيار بحدود ما يفرضه الآخرون عليك!؟ حتى إن الكلمات التي نستعملها أثناء تبادل الأفكار بيننا، (لم تتخذ دائماً الدلالة ذاتها)! إن ما نبدعه في التفاصيل، مغاير تماماً لما نريد التعبير عنه بجمل مكثفة، ومختصرة للغاية، لذا فإن القيمة الملهمة تمنحنا دوماً روعة ما نريد التعبير عنه من خلال ذاك الذي يبتدعه خيال ما! في لحظة ما! بما ندعي أنه شيء من فيض علوي باغتنا.. نتمنّاه ليصعد بنا نحو ما يوشك أن يكون قصيدة!؟

حتى في هذا المجال، فالأمر ليس بيدنا على الإطلاق لكي نختاره وقت ما نشاء، وكيفما نشاء، وعندما نشاء! هذا عائد لتلك القدرة الخفية التي تجتاحنا فجأة، فنجد أنفسنا مغمورين بذلك الفيض البهي، والذي لا يأتي إلا نادراً ليمنحنا فرصة التعبير عن الجماليات بالشعر الأحلى، والأجمل. إذاً، لا تولد القصيدة  مطلقاً  من فراغ، بل تتدخل عوامل كثيرة للوصول بالكلمة إلى الشعر، ومن الشعر إلى الإبداع تماماً كالذي كان يعتبر قمة الجبال هي الأعلى، بعدما تجاوز الهضاب، ثم أوشك أن يعتبر فضاء الطيران هو الأعلى، ثم اعتبر للحظة ما أن القمر قيمة أعلى من كينونة هذا الكون لذا تغنّى به، وغنّاه إلى أن يتجاوزه يوماً إلى تلك الثريات الأبعد، ما بعد المريخ وزحل وأفلاكٍ أخرى لم تخطر ببال بعد، تماماً كالقصيدة التي لم تخطر ببال بعد، لأن قدرها أن يمنحها لنا في زمن غير زمن نتخيله، في مساء لا يدور في خلدنا: أي مساء؟! في لحظة ما، تمنحنا.. ذلك الوميض الساحر، لندخل بعدئذ في فلك الشعرية الحقيقية، زمن طويل جداً يمضي لنُلهَمَ القصيدة، فكيف بالذين يطرحون الكلام جزافاً كل يوم؟

لقد أصبحت لدي القناعة كاملة، أنني لا أمتلك القصيدة، بل تمتلكني، وأنني لا أختارها أبداً، بل تختارني، على قسوة حضورها المباغت الجميل الأخاذ كتلك الأفكار التي كنا نعتبرها ضرباً من الجنون! أننا سنحط رحالنا على القمر؟! أو أننا يوماً سنخترق العالم بطوله وعرضه من خلال جهاز يدعى المحمول، وأن شعراء سيتغنون  بالموبايل  أسرع وأغرب وسيلة اتصال بين العاشقين، بعدها هجروا التغني بالقمر وما حوله من تلك المسوغات التي كانت تعتبر من أرق ما مارسناه غناءً، وتلهفاً له، ثم غدا من جملة العاديات التي نحتفظ بها للذكرى؟! هكذا، نجد أنفسنا دائماً: خارج إطار الاختيارات التي نحبها ونرجوها، إلى خيارات أكثر تعقيداً، وجنوناً، وجمالاً. ومع هذا، فإننا نرضى بها بقوة التأثير والمتعة! لذا، فإننا، من خلال مخيلة شاطحة في خيالها البعيد نحلم (بذلك الفردوس الوشيك، الذي يصبح الإنسان فيه غاية ذلك، فردوساً يفيض بالموهبة، ويغسل هذه البقايا المهمومة المكسورة من ذلها، ووجع انكسارها لكي تنهض (أمّة فتية هي دائماً أشد الأمم إباءً).

تلك هي أمة المجد والشعر والإباء!

ما دفعني لكتابة هذا الموضوع، حرارة أنفاس لمترجم من هذا الوطن رأيته يترجم كتاباً بلغة لا تقارب الشعر فقط، بل تكاد تكون هي هو!؟ هكذا تجد الأفكار طريقها للتبادلات الجيدة، والاستفادة من تنوعها، وعمق دلالاتها، لذا يمكن القول إن الإنسان بطبيعته ميال للجمعي والمشاركة في نسج ما هو نافع وجميل ضمن منظومته، ليشمل مجتمعه الكلي ارتقاء بتلك القيمة المجتمعية إلى ذروة أعلى مما نتصور، وأبعد مما نشتهي، وأعمق في مدلولها مما يعبر عنه الدال بتلك الظواهر العابرة، التي تخفي في عمقها وجوهرها ما يدل على عمق تلك المدلولات بقوة وتأثير رائعين! لا يمكن تفسيرهما في لحظة نشوة غامرة!

العدد 1140 - 22/01/2025