الإعلام والثقافة

 ما من شك في أهمية وتعدد وظائف الإعلام التي تزداد طرداً مع حجم الأخطار المحدقة بالوطن إنساناً وتاريخاً، حاضراً ومستقبلاً، فإذا كان واحد من أهداف الحرب الظالمة التي جرت في سورية وعليها هو إسقاط الدولة، فإن الهدف الأعلى للإعلام يصبح العمل بكل أدواته ووسائله للمحافظة على الدولة بمكوناتها وركائزها المعروفة للجميع وهي وحدة الأرض ومتانة ومناعة النسيج الاجتماعي وصيانة المؤسسات.

الإعلام أهداف ووسائل، فإذا كانت الأهداف واضحة ومحددة، أصبح لزاماً على الوسائل أن ترقى إلى مستواها، وأولها المهنية والمصداقية وتوخي الحذر في إطلاق الأحكام والابتعاد قدر الإمكان عن الذاتية المفرطة والعمل على خدمة الكلية الاجتماعية دون الوقوع في الفئوية البغيضة أو التحيز الأعمى الذي يقوي الغرائزية ويعطل قدرات العقل على التحليل والتركيب واستخلاص النتائج، بعيداً عن التلقين الذي أصبح منفراً وممجوجاً.

على الإعلام مراعاة احتياجات المتلقين وألا يصادر حقهم في المشاركة بعملية التواصل والتوصيل، فبمقدار ما يقدم لهم معلومات صحيحة محايدة فيها مصداقية فإنه يفسح أمامهم في المجال للشعور بأنهم فاعلون في عملية التلقي وليسوا مصادرين تملى عليهم الأحكام والخلاصات، وكأنهم قد فقدوا قدراتهم ومؤهلاتهم في الوصول إلى حقائق ما يجري حولهم من أحداث هم من أوائل المعنيين بها.

تعطيل العقل وإطلاق الغرائز من أخطر الآثار المدمرة التي يمارسها الإعلام، بوعي منه أو بحكم وطأة الأحداث وسخونتها، واشتداد الآلام وعظمة التضحيات التي ساهم فيها كل أبناء سورية وفي مقدمتهم شبابها المقدام.

الإعلام موجه ولكن عن بعد، يشير إلى الظواهر، ويتعامل مع الجوهر، متجنباً الدخول في التفاصيل الصغيرة، حيث يمكن للشياطين أن يمارسوا هوايتهم المفضلة في الغواية والإغواء، سيما إذا كانت أوضاع المتلقين ومصاعب حياتهم تساعد على الغوص في تفاصيل يمكن تأجليها إلى مرحلة تتسم بأريحية في طريقة التفكير وفي سلامة الوصول إلى استنتاجات صائبة.

الإعلام ليس متابعة للأحداث ونقل لها وتحليل وتركيب لمجريات الوقائع فحسب، إنه طريقة تفكير وتوجه، وهنا تقترب وظائف الإعلام من دور الثقافة وفاعليتها في المجتمع، فإذا كانت الثقافة طريقة تفكير ونمط حياة، أي سلوك وممارسة ومعرفة، فالإعلام لا يبتعد عن ذلك، فهو ينمي القدرات العقلية للمتلقين ويرفع مكائن الاتزان لديهم، ويساعدهم في اتخاذ المواقف التي تتطلبها المراحل المختلفة التي تعبر بهم وبوطنهم، فلا إفراط ولا تفريط ولا شماته ولا تشفي ولا مبالغة في تحقيق النصر إلا على قوى الإرهاب.

من السهولة بمكان إثارة الغرائز، فالإنسان بطبعه أكثر ميلاً إلى ردود الأفعال الغريزية، ولكن الثقافة (الإعلام) المسموع والمرئي والمقروء، تساعد على مواجهة الغريزة بالتعقل، والانفعال بالهدوء، والتسرع في إطلاق الأحكام بالروية ونفاذ البصيرة.

كلنا يدرك أهمية ودور الإعلام المرئي، وخطورة الصورة في نقل الأحداث، وبالتالي التأثير على المتلقين، هذا يستدعي من القائمين على وسائل الإعلام توخي الحذر الشديد في التعامل مع هذه الوسيلة وتوظيفها لما يخدم الكلية الاجتماعية ويساعد على رفع منسوب الانتماء إلى الدولة (الوطن) على حساب الانتماءات الضيقة دون إلغائها، بجعل الانتماء الأضيق في خدمة الانتماء الأعلى، بإزالة التناقضات المفتعلة بينهما والتي يقوم على تغذيتها أصحاب المصالح الهدامة التي لا تخدم القضية المشتركة لأبناء الوطن الواحد.

وظيفة الإعلام اليوم تتعاظم مع خطورة ما يجري في الوطن، فلا تضيعوا انتصارات جيشنا وحلفائه بإعلام لايتوازى مع هذه الانتصارات، على قوى الظلام والإرهاب، الانتصارات العسكرية إذا لم تترافق بانتصارات على الجبهات الأخرى وفي مقدمتها جبهة الفكر الذي يوجه السلاح، نكون كمن يدور في حلقة مفرغة بإعادة إنتاج أسباب الأزمة دون مواجهتها.

كلنا ثقة بأن دروس الماضي ومآسيه لن تتكرر في فضاءات إعلامنا الذي واكب الأحداث بشجاعة وصبر وتضحية، وعليه اليوم أن يعمل جاهداً على التحول من إعلام نقل الأحداث والتعليق عليها، إلى إعلام فكر وثقافة، تنيران الطريق أمام سورية التي لا نريدها كما كانت، بل أقوى وأبهى وأمتن.. فهي أهل لذلك ليس فقط بحجم التضحيات التي قدمتها، وإنما بفضل دورها التاريخي ومساهمتها في الحضارة الإنسانية.

العدد 1140 - 22/01/2025