روائح الجسر الأبيض (*)

قل للمرأة التي تحبها.. قل لها ولا تخف:

ضعي يدك هنا.. عند قلبي.. عند بوابة الحياة..

عند نهر الدم المتدفق في الأوردة المتعبة في قلبي.. ضعي يدك هنا..

ودعيني أشعر أن ثمة واحداً في هذا العالم يحس بأن الدم هو للحب وليس للحرب!

(1)

شام، وليَّلَ الجسر الأبيض مثل وجهي!

ثمة هُلامٌ يتراقصُ أمامي والرؤية غير واضحة.. مشوشة تماماً، ولكني أرى بوضوح أحياناً: الآخرون يلتفون حولي.. معهم حق، فقد مضى على وجودي في هذه الحالة من الحمى يومين شعرت أنهما زمن طويل.. طويل.. أشعر بأن هذا الزمن بطول عمري كله، ويشعر الآخرون أنه طويل بطول الانتظار الذي عاشوه بعدها!

دخلتْ البرودة إلى عظامي، صار لها صرير مثل صرير باب حديدي صدئ.. صرت أوحوحُ بجنونْ: وووح وح وووو ح ح ح..

جاؤوا بالأغطية.. رموها على سريري.. شعرت أن تلّةَ تراب صارت فوقي. يالهذا القبر.. كدت أختنق. دفعتُها عني، فتساقطت الأغطية عن السرير تكشف جرحي.. وفادي جريح. فادي في حالة حرجة. فادي ترتفع حرارته وتنخفض. الطبيب زاره آخر مرة ليطمئنْ حامد وفدوى: الكمادات تكفي!

ارتفعت حرارتي سريعاً:

38 درجة، 39 درجة، 40 درجة، وبدأتُ أغلي!

رأيت أقفيةَ نساء يركضن عاريات أمام قطيع من المخمّرين بلثامات سود.. رأيت أجساداً ممزقة الملابس لرجال وأطفال يتراكضون في شتى الاتجاهات.. رأيت قذائف تسقط من فوق، وقذائف تخرج تحت. رأيت عصافير مقطعة الأوصال وبعضها حي يئن ولا يزقزق. ورأيت أطفالاً مقتولين خنقاً. رأيت بقايا ورود ذابلة.. كان كل شيء

واضحاً، عارياً. والولاويل التي سمعتها، والصياح.. كل شيء كان عارياً تماماً.. تماماً، لا يمكن إخفاء عُرْيِه أبداً.. خلتُ نفسي أسألُ: ماذا يجري؟ ماذا يجري؟

كان المشهد مختلط التفاصيل.. بكاء وصراخ. أيادٍ تمسك نسوة من أذرعهن وسواعد لفت عليها جدائل الشعر، وسحبت صاحباتها بعنف. اتسعت بقع الدم المنتشرة.. بدت مثل دوامة ألوان لخداع البصر. وكنت أغلي.. أحسست أن الأجساد تظهر وتتلاشى. تبتعد وتقترب.. ثم تغيب..ابتلعها ماء غزير، يتراقص كسراب يهتز.. سمعت صوت انفجار كبير هووووووبوم.. توسع السراب، تحوّل إلى حوت بلع كل شيء!

جاء غناء دون موسيقى:

(حبيبتي زنبقة صغيرة

أما أنا فعوسج حزين)

كانت الحرارة شديدة فقالت أصوات: كمادات ماء باردة. كمادات ماء بارد.. وصدى: باردْ.. ردْ..ردْ.. وطنين: دْ!

أنا لم أحسب الزمن.. الهذيان كان طويلاً، وليس بمقدور من يهذي أن يعدّ الساعات. ميزتُ ملامح الحاضرين: أخي حامد كان قريباً مني: حواجبه مقفلة.. عيناه زرقاوان.. شارباه أسودان غذّاهما شيب فوق شفتين مكتنزتين.. وشعره اشتعل بشيب كثيف. يذهب حامد ويعود ويبدو قلقاً.. فدوى شقيقتي تضرب كفاً بكفّ، وعلى وجهها علائم دهشة، وتهذي: (ياربي.. اشفي جرح فادي. ياربي.. اشفي جرح فادي!!) وفوق رأسها إيشارب نهديّ، وعيناها الواسعتان تحدقان بي بعطف وحنان كعيني أمي. مزنة العوني لا أعرف لماذا جاءت.. امرأة ممتلئة الجسد.سمينة. ملهوفة تريد أن تعرف ما الذي سيجري لفادي، لكنها تتحدث عن الحرب!

غطت أصوات عدة انفجارات بعيدة نسبياً على الكلام، كانت هناك عبارة قديمة تروح وتأتي تقول: الحب والحرب لا يلتقيان.. لا أعرف عما تتحدث مزنة، ففي الحرب يصبح الحب استثناء، كما يقول الفلاسفة، لكن الانفجارات البعيدة أضحت قريبة.. والمفاجأة لم تكن وقعت!

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025