مهاجرون بلا أنصار
عندما هاجر النبي محمد وأتباعه من مكة إلى المدينة، بعد اشتداد قمع قريش لهم ،كان في انتظارهم في المدينة أنصار احتضنوا هؤلاء المهاجرين ولم يشعروهم بأنهم اغتربوا عن ديارهم، حتى عادوا إليها في فتح مكة بعد أقل من عقدين من الزمن، لكن بقي التقسيم قائماً بين المهاجرين والأنصار عشيرتين، عصبيتين، تكونتا نتيجة نشوء الحالة الجديدة والمكان الجديد في الدعوة، وربما كان أحد منابع الصراع السياسي على السلطة في الإسلام، الصراع الذي جعل ثلاثة من بين أربعة خلفاء راشدين يموتون قتلاً في خضم الصراع المستمر إلى يومنا هذا.
لكن لسنا في وارد نبش هذا التاريخ الدامي المستمر، إذ هناك الملايين ممن يعتاشون على نبشه وتجديد ثاراته العمياء كل لحظة، ويجري وقطع الرؤوس وسفك الدماء لأن فلاناً قُتِل ظلماً أو لأن فلاناً يسيء إلى فلان الذي أصبحت عظامه رملاً.. نحن في سيرة الهجرات، وضربنا مثلاً فقط هجرة المسلمين، إذ كان للمهاجرين أنصار أينما حلوا.
في أسبوع واحد غادر صديق عزيز وصديقة عزيزة كل على حدة هذه البلاد المنذورة للخراب. هما من آخر من تبقى لي هنا.. للأمانة بقي القليل القليل ممن هم في مرمى النظر..
الاثنان غامرا في البحر ليصلا إلى أوربا..
الاثنان لديهما في دمشق ذكريات ومحبون وعمل محترم وأملاك..
الاثنان يحبان البلاد وأهلها، بعيدان عن السياسة، ولم يكونا يفكران يوماً بالرحيل.. .
الاثنان سيكونان في أحسن الأحوال، بعد رحلة النزوح الطويلة والمحفوفة بالمخاطر، لاجئين إنسانيين في منزل بارد تستأجره لهم حكومة دولة أوربية إمبريالية متآمرة..
سينتظر كل منهما بقية العائلة بعد الحصول على الإقامة ل (لمّ الشمل)..
ما زال هناك من يقولون انتصرنا! وآخرون يعدون بنصر قريب..
الآن في التراجيديا السورية المستمرة والمتصاعدة يهرب السوريون من الموت والدمار والجوع إلى كل بقاع الأرض، مهاجرون سوريون صاروا سيرة وسائل الإعلام والتقارير الإنسانية والسياسية والبيئية، تحذر من خروج ملايين السوريين هائمين على وجوههم يبحثون عن ملاذ يقضون فيه بقية أعمارهم، ليصبح الوطن مجرد ذكرى، حلماً يستعيدونه أوقات القيلولة ويذرفون الروح هناك، إن وصلوا سالمين ولم يبتلعهم البحر، أو تاهوا في البراري الباردة بعد أن تركهم المهربون لمصائرهم وفرّوا..
يهاجر السوريون ولا أنصار يستقبلونهم ويأوونهم، العدد الأكبر من مهاجرينا، الفقراء طبعاً، من لا يملكون ثمن فيزا إلى أوربا، أو كلفة تهريب الشخص التي وصلت إلى 12 ألف يورو (يعني بالسوري مليونين ونصف مليون ليرة)، يذهبون إلى مخيمات اللجوء التي أصبحت تجمعات سكانية بائسة وكبيرة في تركيا والأردن وكردستان العراق وغيرها، وينتشرون في لبنان حيث لا مخيمات تجمعهم، لكن كلهم في مهبّ التجاهل والنسيان من الجميع، كلهم بلا أنصار والعالم يتفرج على اتساع المأساة وامتدادها.
ازدهرت تجارات كثيرة في هذه الحرب، إضافة إلى تجارة السلاح طبعاً، فهناك تجارة العمل الإنساني، ينخرط انتهازيون في أعمال الإغاثة ليصبحوا مليونيرية جدداً، طبعاً هذا لا يعني أن ننكر وجود ألوف السوريين وغير السوريين الذين يعملون بصمت داخل سورية وخارجها لإغاثة أهلهم ضمن حدود إمكاناتهم، وننحني لنبلهم وإنسانيتهم، لكنَّ الحرب تفرز أثرياءها الجدد، منهم مهربو سلاح وبشر وبضائع، قتلة يعيشون على خطف الناس والممتلكات وسرقة أثاث المنازل، لصوص يعيشون على استغلال قضايا مئات ألوف المعتقلين والمخطوفين.
أما عن أثرياء السياسة، والمواقف المدفوعة الثمن التي يطلقها سياسيون ومفكرون ومثقفون ومحللون سياسيون وعسكريون، من راكبي موجات التطرف والجنون ومستثمريها، فحدث ولا حرج.
لم نتحدث عن نازحي الداخل، وهم أضعاف عدد المهاجرين خارج البلاد، عن حلم العودة إلى منزل صار أنقاضاً بعد أن (عُفشت) محتوياته وصارت في الأسواق، عن العمر الذي ينزفونه بحثاً عن منزل بإيجار تتحمله ميزانياتهم المعدومة، عن النائمين على الأرصفة وفي الحدائق والمدارس ومراكز الإيواء..!