صوت أبي العلاء…
لعلي عثرت بصوت منادياً، فيما أقطع دربي المعتاد، ظننته آتياً من وراء السحاب أو من وراء عالمٍ آخر مازال نهب الخيال، لكن للصوت يداً جذبتني من قميص قلبي: أنا أبو العلاء!
ثمة فتى كان يلملم كتباً مهجورة تركها أصحابها أو ربما سُرقت، لكن (السارق) على ما يبدو لا شأن له بصوت أبي العلاء، فيترك الكتاب الذي وضعه ذات يوم عميد الأدب العربي طه حسين جانباً، كان الصوت قوياً هذه المرة، فأبو العلاء حاضرٌ بتشاؤمه وبخلجاته وبفلسفته الفادحة.
اتكأت على الصوت وأنا أرى عصوراً تنفتح أمامي عاد بها السجال وعادت معها صورة الشاعر التي تكاد تنمحي اليوم، لأن صورة الشعر قد ملأت أسماعنا، وكأني بطه حسين وهو ينادم أبي العلاء ويغوص في أشعاره ليقطف حكمة هنا وقولاً هناك، وبزعمي بدا مدافعاً عنه أيما دفاع.
ترى هل احتاج أبي العلاء إلى كل ذلك الوقت، وعندما جاء من يواسيه لم يجدا كليهما من يواسيهما، فرمي الكتاب من علٍ، أو هجع قلقاً على طرف الطريق!.
لعل زمانه مازال كنهر يجري وهو جد متشائم، لكأنها فلسفة، لا تُستنفد، وكأنها لغة نعيشها دون أن نذهب إلى آخرها.
قلبت الكتاب، وهبت روائح الماضي لحظةً في حاضرٍ أغرقته كثافة الاتجاهات، وصوت أبي العلاء: لا لست متشائماً وإن تشاءم زمني، وإن تشاءم الشعراء جلّهم على الأرجح، لكنها طريقتي وكيف نظرت إلى العالم وإلى الكون وإلى ذاتي القلقة دونما استقرار، ألا ليت الشباب يعود يوماً لأهزم التشاؤم فيّ، وأثمل نايات القصيدة على مدارج الزمان.
رمى الفتى الكتاب وقال: ماذا به وقد ازداد اصفراراً؟ لعل حمى أصابته، أجل هي حمى الزمان الذي يُلقي بالكتب كما الأعمار جانباً، ويطفئ الأقوال لتصبح رماد سنين، لكن جمر السؤال ربما يعيد اشتعال الأزمنة.
في وقت مضى رميت مكتبة بأكملها لناقد عربي اسمه محمد مندور، وفي أيامنا هذه ثمة من يشتري كتابه وثمة من يبيعه دون أن يذرف دمعة واحدة عليه، ربما لأن الرغيف هو من يشبعه لا الأوراق المتهالكة التي انطوى زمانها، كاتب هذه الأيام فقط يبكي قلبه، ويذرف دمعة تبلل بضع وريقات يذُبنَ في ارتعاش أصابعه لحظة ساوم بائعاً عابراً عليه.
لم ينقطع صوت أبي العلاء وهو يتوكأ على رفيقه (طه حسين) متحاورين ومتنادمين وكأنما حوارهما هو بذاته يجيء هامشاً في زمانٍ لن يكونا فيه ولا انتظراه مطلقاً، الزمان هو فقط من ينتظر، أومأت للفتى بأن يلملم بيديه الغضتين ما تبقى من الأصوات علها تزيح ضجيج صمتٍ حرم الرأس منحة التفكير بقلق مشروع. ولعلها تزيح كل أمكنتنا الطارئة التي لم تخترها، كما أصوات لم نعرفها من قبل، أو ترانا سنعرفها بعد حين من الزمن.
في فسحة الذاكرة ارتاح الصوت، فملأ المسامع وسال من الحبر ندىً كثير الشغف، وضوعت المكان روائح الماضي التليد، ورجالاته كيف تتشابه أفكارهم في أدمغة مختلفة، ويحضرون في مصادفة طفولةٍ تبحث عن شيء ما سوى الكتب، لعلها كسرة رغيفٍ يابسٍ، أو كسرة من أملٍ لا يأتي، وربما يأتي لكن في زمنٍ تبحث فيه كل الأصوات عنّا!