شعراء اللغة.. وفلاسفة الكلمة

ما ذنب المرايا اللامعة إذا كانت الوجوه التي تنظر فيها غير جميلة؟  وما ذنب الشمس إذا أشرقت على الحشائش والطحالب؟  وهل ترخص الأرض إذا مشى عليها الضّبع والخنزير، أو تقلّ قيمة اللآلئ إذا حصل عليها عبّادِ الفلوس وصغار النفوس؟

أليست اللغة المحمولة عبر الكلمة تشبه إلى حدّ كبير المرايا والشموس والأرض واللآلئ؟!  إنّما استعمال اللغة والنّطق بها يختلف من فم  إلى آخر… ( فالكلمة قوّة هائلة، ولكن في يد الذين يقدّسونها، فلا يستعملونها إلا للخير والهداية…).

ولكلٍّ لغته… فمثلما للشجر لغة من أغصان وجذوع وأوراق وثمار.. كذلك للناس أيضاً لغاتهم، بها يُعرفون ومن خلالها تصل رسائلهم، بها يكتبون أسماءهم، وقصائدهم ومذّكراتهم.. تثبّت اللغة فشلهم وانتصارهم، نجاحهم  وحماقاتهم، إقدامهم وانهزامهم..  وتبقى اللغة التي كتبوا بها صامدة، باقية، لا ذنب لها، بريئة من الأحقاد والسموم والضغائن، فهي كأي نهر يسقي البخيل والكريم، ولا يكترث بنقيق الضفادع من حوله، أو بالعلب الفارغة وأكياس النايلون إذا عامت فوق سطحه، أو غرقت إلى قاعه. (وتُحدث الكلمات أقوى النفوذ، إذا وُضِعت في مواضعها الصّحيحة).

وليس كل مَن تعلّم الوزن والعروض، وتفقّه باللغة وعرف أسرارها صار شاعراً أو مفكراً أو فيلسوفاً، وإلا انقلب جميع مَن تخرّجوا في الجامعات فلاسفة وشعراء!

(ولا ينبغي بلع الكلمات بلعاً، بل مضغها أكثر من مضغ قطعة الخبز..  وكلمة واحدة تكفي لاعتبار المرء حكيماً، وكلمة واحدة تكفى للحكم عليه بالجهل  والسفاهة).

ووُجِدت الغيوم لتُمطر، والنجوم لتلمع، والشمس لتشرق، والكلمة الحرّة والنّبيلة لتُقال في الوقت المناسب والمكان الصحيح، لا لتوأد وتُدفن حية هي وقائلها. ولكلٍّ وقته ومكانه….

  فلا يأتي الشتاء قبل الخريف، ولا الصيف بعد الربيع..

  إن اللغة ضرورية للأديب وللشاعر وللفيلسوف وللرسام وللموسيقي ولكل من يتعاطى الكلمة.. إنّما الشيء الأكثر ضرورة هي حاجة هؤلاء إلى موهبة حقيقية تحمل صفة الشاعر ونبض الفيلسوف.. فالموهبة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يتعلّمها أو يشتريها، بعكس اللغة التي يتعلّمها الآلاف في كل عام..

وإذا كانت اللغة نجمة، فالموهبة بريقها… وإذا كانت أرضاً فالموهبة أشجارها وثمارها، وإذا كانت نهراً وطريقاً، كانت الموهبة سفينة وحصاناً.

 جسدٌ هي لغتنا.. وأفكارنا أثواب

سماءٌ هي لغتنا.. وخواطرنا طيورٌ وفراشات..

لغتنا جبال وسهول، وما علينا إلا زرعها بالورود والشجر من خلال المواهب الحقيقية، والأقلام الصادقة، إنها دائماً بانتظارنا، تلك اللغة العظيمة، بانتظار أصحاب المواهب الكبيرة، والنفوس النبيلة، كأي نبع يصبر وينتظر قدوم الربيع كي ينفجر ويسيل..

(إن الكلمة المبدعة، الرقيقة الصادقة، قد يكون صداها بلا نهاية.. (فالكلمات هي كناية عن نقطة حبرٍ صغيرة تسقط كقطرة ندى فوق فكرة، تُحدث ما يجعل الآلاف، وربما الملايين يفكرون..  وأردأ الكلام، ما صرنا به عبيداً). وكلُّ عقل ضئيل وموهبة صغيرة، وصوت خال  مرتفع، يبدأ دوماً بمهاجمة الأفكار الكبيرة والعقول النّيرة، (وقد يصعب على الفيلسوف العميق أن يجد أجوبة عن الأسئلة التافهة).وإحساسنا بالأشياء والأصوات والأحياء من حولنا يختلف عن إحساسنا بمعانيها، فإذا كانت اللغة وردة، كانت الموهبة عبيرها، ويمكننا أن نُمسك بجسد الوردة ونراه، أما العطر والعبير فشعورنا بوجوده يختلف عن كل شعور.   وما أكثر الورود الاصطناعية، الخالية من العطر، والفارغة من الحياة! (إن الكلمة هي اللغة التي هدمت عبر الزمن عروش الجبّارين،  ومَن يطفئها كأنه أطفأ شموع الحياة. إن فن الكلمة هو ذروة الخلق الفني.. فسَلِ المحبة.. سَلِ العدل والخير والحق والسلام.. سَل كل قيمة من قيمنا العظمى السامية: هل مخرت زوارقها الهادية عُباب الزمن إلا بمجدافي الفكر والكلمة؟).

العدد 1140 - 22/01/2025