تنصت مشروع!
مع ظهور فضائح تنصت الأمريكان على الفرنسيين والألمان ومكالمات المسؤولين في البلدين، لأن أبناء العم سام يعتبرون هذا التنصت ضرورة للأمن القومي الأمريكي، تذكرت أن كل مواطن سوري يقوم، مكرهاً لا بطلاً، بعمليات تنصت لا حصر لها يومياً…تنصت غير مقصود…تنصت مشروع تفرضه ضرورات المرحلة الحساسة والدقيقة والخطيرة التي تمر بها الأمة والوطن والشعب… وتجبره على الاقتراب أكثر فأكثر من أبناء بلده. هنا سأقوم بمحاولة جمع بعض حالات التنصت المشروعة التي مارستها خلال الفترة الماضية مكرهاً أيضاً.
***
في المقهى المكتظ بالطاولات والزبائن يجلس رجل وحيد إلى طاولته المجاورة لطاولتي، وأمامه أكثر من جهاز موبايل، طوال فترة جلوسه إلى الطاولة كان يتحدث بصوت عالٍ عبر موبايلاته. من حوار له التقطت: كيفك معلمنا… في عنا سيارة مخطوفة عندكم بالج…في مجال تطلعولناياها؟
انساها؟ أمرك معلم..
هي كيّا سودا ومن ست شهور انخطفت…
ثم يغلق الموبايل بعد أن سمع ما يبدو أنه يشبه البهدلة، بدليل تأففه بعد إغلاق الخط، فيما كان يسهب في الإطناب والمديح للمتحدث على الجانب الآخر من الخط خلال الحديث… على الموبايل الآخر تحدث مع شخص بدا أنه صاحب السيارة قائلاً: والله ما مشي الحال صديقي.. ما في أمل.. وأغلق الخط.
***
على الدرج المؤدي إلى مواقف (السرافيس) المحشورة تحت جسر الرئيس ينزلان خلفي وهما يتبادلان الضحك على شر البلية:
– شو أمنيتك بالحياة؟
– حياة؟ مين حياة؟ وين حياة؟
– هلأ بلا مزح.. شو أمنيتك وحياة الغوالي؟
– بتعرف شو أمنيتي؟ إنو إجي شي مرة لتحت هالجسر وشوف سرفيس، سرفيس واحد، ومن أي خط من الخطوط، وبأي ساعة من ساعات النهار والليل، فاضي وعم يستنى الركاب…
-شغلتك بسيطة.. بأقل من شهر راح تشوف السرافيس تترجاك تطلع، بس استنى جنيف2 وراح ذكرك إذا ضلينا عايشين.
***
في السرفيس حيث تتلاحم أجساد ستة عشر مواطناً ومواطنة وأنفاسهم في مساحة ضيقة مخصصة ل 12 شخصاً من القياس الصيني ال (small)، تقول الطالبة الجامعية لزميلتها الملاصقة لها على الكرسي المكسور: مبارح طلعت الصبح بكير من البيت حتى لحّقت آخر محاضرة بالكلية. يقول الموظف لجارته التي يحاول اختلاق حديث معها: صار لازم الواحد يحجز بالسرفيس قبل يومين متل البولمانات..
المرأة الممتعضة من الانتظار الطويل وضيق المكان والجار الطامع تهز رأسها دون كلام.
يسأل الطالب أستاذه المقرفص في الممر الضيق وهو يحتضن دفاتره وكتبه: من هم (الكاظمون الغيظ) أستاذ؟
يجيب الأستاذ: هم السوريون الباقون تحت سماء الوطن يا بني… ويمسح عرقه بيديه…
فيما صوت المغني الأجش ينطلق من راديو المكروباص: سورية بخير..
رجلان يبدو عليهما أنهما يتحدثان عن (الأوضاع) من موقعين مختلفين، أحدهما يتحدث بصوت عالٍ عن النصر القريب والحسم القادم خلال أيام، فيما الآخر يتحدث همساً وهو يتلفت يميناً ويساراً، التقطتُ ما قاله أخيراً: أخي متل ما قلت كنا لاعب صرنا ملعب…بس شو اللي وصّلنا لهون؟
***
تنصّت بصري: في الحي البائس الذي أصبح ملاذاً لأعدادٍ كبيرة من النازحين من مناطق دمشق وريفها، لأنه ينتمي إلى (المناطق الآمنة)، تجلس امرأتان على الأرض، حيث لا أرصفة ولا حدائق، أمام مركز لتوزيع معونات الهلال الأحمر بانتظار ورود دفعة من المعونات، إحداهما خمسينية حفر التعب أخاديده في وجهها حتى تبدو في العقد السابع من عمرها، والأخرى ثلاثينية تكاد لا ترى بالعين المجردة لشدة نحولها.. قريباً منهما ينتظر سائق السوزوكي صيد اليوم من مخصصات النساء اللاتي فقدن كلّ أمل بحياة أفضل، يشتريها منهنّ، ويبيعها لتاجر جملة يبيعها لهن بالمفرّق لاحقاً..
دورة اقتصادية مغلقة بإحكام على الأمل بسورية الحلم.. سورية الجديدة.