أوربا بين أزمتها… وطموحها للهيمنة (1 من3)

خرجت أوربا من الحرب العالمية الثانية مدمرة منهكة، فقدت ما يقارب 40 مليوناً من سكانها، وفقدت الدول الكبرى فيها مستعمراتها، وكان عليها أن تبني نفسها ومدنها واقتصاداتها من جديد، على مراحل.

أولى هذه المراحل كان إعلان وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جورج مارشال في عام 1947 عن ضرورة قيام دول أوربا بالتعاون الاقتصادي فيما بينها لإعادة بنائها مؤكداً تخصيص حجم كبير من المساعدات الأمريكية، وهو ما عرف ب (بمشروع مارشال لإعادة بناء أوربا).

لم يكن هذا الكرم الأمريكي دون مقابل! بل كان هدفه ذهب أوربا من جهة! وفتحها أمام استثمار الرأسمال الأمريكي (في كل شيء) من جهة أخرى، (وكان هذا سبب البحبوحة التي عاشتها أمريكا خلال الخمسينيات والستينيات).

لكن وعي الأوربيين أن مصير العالم حينذاك بين يدي عملاقين جبارين يوجهانه حسب مصالحهما، وأن أية دولة أوربية منفردة لن تكون قادرة على التأثير في الأحداث الدولية تأثيراً هاماُ أو الدفاع عن مصالحها بصورة مجدية إلا بقدر ما يتبنى أحد هذين العملاقين قضيتها ويدافع عنها، لذلك، خضعت البرجوازية الأوربية للهيمنة الأمريكية! وفي الوقت نفسه بدأت تفكر بالتعاون لتصبح قوة كبرى، وقد أسفر ذلك عن تكوين ما يسمى (منظمة التعاون الاقتصادي الأوربي) (آنفاً) التي تزعمها الفرنسي روبير مارجولين، للمساعدة على إدارة خطة مارشال لإعادة إعمار أوربا. كان ذلك في عام 1948 وبعد ذلك بفترة، جرى توسيعها لتشمل عضويتها بلداناً غير أوربية، وفي عام 1960 جرى إصلاحها لكي تكون (المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي)، واستمرت في التطور أكثر من 40عاماً، إلى أن وصلت إلى ما سمي (الاتحاد الأوربي).

يعتبر الاتحاد الأوربي أكبر التكتلات الاقتصادية في العالم في الوقت الحاضر، وأكثرها اكتمالاً من حيث مراحل التطور والنضج، ويعبر عن تجمع الرأسمالية الأوربية لمواجهة أخطار العولمة الاقتصادية والابتلاع من قبل الشركات العالمية المتعددة الجنسيات. وصل عدد دول الاتحاد الأوربي مع حلول عام 2004 إلى 25دولة، بعد أن أكمل التوسع الخامس الذي انضم بموجبه عشر دول جديدة إلى عضوية الاتحاد وهي: قبرص، جمهورية التشيك، أستونيا، المجر، لاتفيا، ليتوانيا، مالطا، بولندا، سلوفاكيا، سلوفينيا. وأصبح هذا التكتل في نظر العديد من الخبراء والمهتمين أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم، بما يمثله من مساهمة في التجارة العالمية وعدد السكان، فهو يحقق سنوياً حجم تجارة خارجية يصل في المتوسط إلى نحو 1150 مليار دولار، أي يستحوذ على أكثر من ثلث حجم التجارة العالمية. ومن ناحية أخرى يمتلك التكتل الاقتصادي الأوربي أكبر دخل قومي في العالم، إذ يزيد هذا الدخل على 7000 مليار دولار، مقابل 6200 مليار دولار لدى تكتل (النافتا) (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك). ويعتبر التكتل الاقتصادي الأوربي أكبر سوق داخلي، بمساحة إجمالية تصل تقريباً إلى 4 ملايين كم2 وعدد سكان يتجاوز 450 مليون نسمة، بمتوسطات دخل فردي مرتفعة نسبياً، ويمثل قوة إنتاجية وعلمية وتكنولوجية ومالية واقتصادية هائلة، مما يجعله أول التكتلات الاقتصادية التي أكملت جميع مراحل التكتل الاقتصادي في العالم وأنجحها وأكبرها، وهو يسعى بكل قوة إلى أن يكون على رأس الهرم الاقتصادي العالمي في القرن الحالي. على أن هذا البناء لا يخلو من ثغرات تبدّت عقب الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 التي بدأت بما سمي (أزمة الرهن العقاري الأمريكي)، والتي وصلت تداعياتها إلى أوربا، وكانت أولى هذه الثغرات:

 التناقض بين الوحدة النقدية والسياسات المالية المختلفة للدول الأعضاء.

 القوانين والاتفاقيات الناظمة لأداء دول (منطقة اليورو) أبطأت الحركة لمواجهة الأزمة، فكثير من الإجراءات تحتاج إلى تعديلات في المعاهدات وتقتضي موافقات جميع الدول الأعضاء أو المحكمة الدستورية (كما في ألمانيا) أو المجالس التشريعية (كما في بريطانيا) فضلاً عن موافقة البرلمان الأوربي والمؤسسات التابعة له، مع عدم وجود آلية محددة للتدخل في أوقات الأزمات. وقد مثلت أزمة الديون السيادية الأوربية (الديون السيادية هي ديون الدولة الخارجية وتكون بغير عملتها المحلية) وتداعياتها علي الصعيدين الأوربي والعالمي، منعطفاً مهماً في مسار (منطقة اليورو)، مما اقتضى تغيير أسلوب الأداء واستراتيجية التعامل في إطار الوحدة النقدية خاصة والاتحاد الأوربي عامة، وتجلى ذلك بوضوح في القمة الثلاثية التي جمعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي في (ك1/2011) حين طالبت ميركل بإعادة النظر في المعاهدات التي تحكم أداء الاتحاد الأوربي ومنطقة اليورو، وتحقيق المزيد من التكامل للسياسات الاقتصادية والمالية، وهو ما تحقق لها في القمة الأوربية التي عقدت في التاسع من الشهر نفسه، والتي شهدت رفض بريطانيا لهذه الخطوة مما عمق أزمة الثقة بين لندن وبروكسل.

العدد 1140 - 22/01/2025