محاولات لرفع سعر الخبز.. توجهات حكومية ليبرالية تهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي
الحكومة التي تراجعت قبل أشهر عن توجه يقضي برفع سعر كيس النايلون الذي يعبأ فيه الخبز، هي ذاتها اليوم تقود توجهات أحادية لرفع سعر رغيف الخبز، والحكومة التي تتحدث كثيراً عن تأمينها لـ (مقومات صمود المواطن)، هي ذاتها التي تدفع الآن باتجاه تقويض مقومات هذا الصمود، والحكومة التي تتفاخر بأنها توفر السلة الغذائية الرئيسية بأسعار معقولة، هي نفسها الحكومة التي تسعى جاهدة لزيادة سعر المادة الأساسية في هذه السلة أي الخبز. هذا هو المشهد الآن، فالخط الأحمر الخطير، الذي رُسم سابقاً تجاه سعر الخبز، سيُعاد رسمه من جديد، إذ ترغب الحكومة بتجاوزه، والقفز فوقه، والتخلي عنه. فهناك حالياً حملة ممنهجة ومنظمة ومعدة مسبقاً، تستهدف في جوهرها مادة الخبز، تمثل دعوة صريحة وعلنية إلى رفع أسعاره، والتخفي خلف شعارات براقة، وأهداف وهمية، ومواقف غير اقتصادية.
تحاول الحكومة، منذ منتصف الأسبوع الماضي، وتحديداً عقب جلسة مجلس الوزراء في 17 حزيران الجاري، تسويق عدة أفكار غير دقيقة حول الخبز، تتعلق بكلفة صناعة الرغيف المرتفعة، ومدى الهدر والاستنزاف اللذين يتعرض لهما رغيف الخبز، وسوء استعمالاته، واستثماره لغير الغايات المخصصة له. لتبرز تساؤلات جوهرية أهمها: ما الذي جرى لتغير الحكومة موقفها؟ ألم يكن الخبز لفترة قريبة جداً بسعره شبه المجاني أحد مقومات صمود المواطن؟ وكيف تحول فجأة إلى عبء على موازنة الدولة؟ ها هي ذي بعض الأسئلة التي تقف أمام الحملة التي تقودها بشكل غير مباشر الحكومة، لتحريك أسعار الخبز، والتخلي عن مبدأ أساسي يضمن جزءاً من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
تتحدث الأوساط الحكومية، عن دعم تصل قيمته إلى 176 مليار ليرة سنوياً للخبز، هذا الكلام جاء على لسان رئيس مجلس الوزراء خلال جلسة المجلس الأسبوع الماضي، ومايتبادر إلى الذهن: من أين أتى هذا الرقم؟ وكيف احتُسب؟ خاصة أن هذا الرقم في موازنة العام الجاري يبلغ 138 مليار ليرة، وبالتأكيد هو رقم كبير، ولا يستهان به، لكن لابد من التفريق بين الدعم الذي هو مبدأ لدى الدولة في سورية، وموقف الحكومة التي تدير هذا الدعم، وشتان مابين المفهومين. إذ إن الحكومات المتعاقبة أتت بلا برامج حقيقية، وظل موضوع الخبز ملفاً غير قابل للنقاش، ومصدر قوة لكل الحكومات في سعيها لتقديم الخدمات للمواطنين. ولم تقترب أي حكومة منه بالمعنى الحقيقي، منذ تسعينيات القرن الماضي.
لم يأت السعر الرخيص للخبز بقرار حكومي، هذه قاعدة في العمل العام يجب أن تتذكرها الحكومة، وألا تتغافل عنها، وألا تعطي لنفسها حقاً لا تمتلكه، ولم يمنحها أحد تفويضاً بذلك. فكل الادعاءات التي تسوقها بعض الجهات المعنية بصناعة الخبز تبدو فارغة المضمون، ولا تستند إلى الواقع، وتظهر العجز في إدارة هذا الملف الذي لم يبق غيره في الاقتصاد الوطني يمكن أن يطلق عليه صفة (الدعم) بالمعنى الحقيقي للكلمة. فأسعار المحروقات في طريقها للحاق بالأسعار العالمية، ولم يبق في هذا المجال سوى المازوت، وكذلك الخدمات الأخرى الصحية والتعليمية، فضلاً عن تخلي الحكومة عن دورها في مجال النقل – عصب الاقتصاد -وبذلك تطبق الحكومة أعتى المعايير الليبرالية، وتتخلى عن مضمون النهج الاقتصادي المُقر في الدستور.
ثمة معطيات كثيرة تلزم الحكومة بعدم الاقتراب من هذا الملف، أبرزها على الإطلاق المشكلات الاقتصادية الهائلة التي يعانيها السوريون الآن، وأبرزها مدى الحاجة إلى الغذاء، فرغيف الخبز الذي تشير بعض المصادر الرسمية أن الكيلو غرام الواحد منه يكلف نحو 130 ليرة، بات وجبة أساسية لشرائح واسعة من الفقراء، الذين فرضت عليهم الأزمة الكثير من العادات الغذائية الجديدة. فعلى وقع الفقر والفاقة والحاجة، وانسداد السبل، وانغلاق الطرق المتاحة، بات رغيف الخبز الرخيص الثمن وجبة للسوريين، وحضوره على موائدهم أساسي. وفي هذا السياق نكشف أن استهلاك الخبز في رمضان الماضي ارتفع بنحو 40% مقارنة برمضان الأسبق، وفقاً لمصادر رسمية. هذه حقيقة تعلمها الحكومة، وكل العاملين في مجال صناعة رغيف الخبز، كما أن أحد دلالات هذا الرقم ومعانيه، هو مواجهة الغلاء، وعدم القدرة على شراء كل المتطلبات الغذائية من مواد وسلع. إذ بات الخيار الوحيد لسد صوت الجوع هو الخبز، والمادة الأساسية المتاحة لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد كل الفقراء، الذين يرون في رغيف الخبز ملاذاً أخيراً ونهائياً لهم.
الخبز في سورية ليس قضية، هكذا كان على مر السنوات السابقة، وكل ما يقال حالياً عن هدر في هذه الثروة هو ناتج بطبيعة الحال عن إهمال حكومي في متابعة الملف الوحيد الضامن لما تبقى من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وما يطرح الآن من أفكار لرفع أسعاره هو اتجاه ليبرالي يهدد أركان الاستقرار، ويلغي قاعدة ذهبية سورية بامتياز، هي أنه لم يمت سوري بسبب الجوع.