بصر اللئيم.. وبصيرة الفيلسوف
يؤمن المبدعون أن الريح صوت الشجر، والبرق عين الغيوم، والثلج لحاف الأرض، والمطر لبن السماء، والنور روح الكون.
ويدركون أن الزبدة تختفي في الحليب، مثلما يختفي القلب بين اللحم والعظام، والبراكين لا شك أنها تغلي تحت أقدامهم، والدم يجري في عروق الجبال مثلما يجري في أبداننا.
إن في الحياة أشياء وأحياء لايمكن أن نفهمها أو نراها، لكننا نحسّ بوجودها، هل نستطيع رؤية العطر حتى لو شرّحنا الوردة؟ أو نعطي شكلاً نهائياً لجسد العواصف، والزوابع والأعاصير؟
وكل فن جميل لا يزال باقياً بيننا حتى الآن ليس إلا برهاناً أكيداً على أن الحس الجمالي أقوى من الفهم والإدراك، فالقصائد تبقى، والقصص تخلّد، واللوحات يستمر تأثيرها في البصائر، فقط إذا كانت صادقة، وإحساس الكاتب والفنان يطغى على الإدراك والفهم أثناء إبداعه.
ولكن ما أعظم أن يجمع المبدعون بين الاثنين:
الإحساس الصادق، والفهم السليم.
البعض يأكل ورق التوت على أمل أن يتحول إلى فراشة، والبعض إذا تناولها حوّل روحه إلى ثوب من حرير.
وما أبعد الفرق بين من يتناول التبن والقش، وبين من يأكل العسل، ويشرب اللبن والحليب!
(لبعضهم عيون، لكنهم لا يبصرون، أولئك هم العميان.. ولبعضهم آذان ولكنهم لا يسمعون، أولئك هم الطرشان.. ولبعضهم ألسنة، ولكنهم لا يتكلمون أولئك هم الخرسان.. وللكثير الكثير عقول، ولكنهم لا يفكرون، أولئك هم الديدان..).
وقد تربط الأحصنة البيضاء إلى المعلف ذاته الذي تربط فيه الحمير السود، وفي النهر نفسه تسبح الأسماك الملونة والتماسيح المفترسة، وفي الأرض ذاتها تزرع الورود وينبت حولها الشوك والحنظل، وفوق قمم الجبال نرى الصقور والحمائم، والنسور والخفافيش، والثعالب والذئاب
لكن.. مَن قال إن أجنحة النسور كأجنحة الخفافيش، وطبع الذئاب كطبع الثعالب، وسمعة الحمير كسمعة الأحصنة البيضاء الأصيلة؟!
وأبداً لا يستوي ضوء النجوم بضوء الشموع، ولا نفس الكريم مع نفس البخيل، ولا رأي الحكيم مع رأي السفيه، ولا بصر اللئيم مع بصيرة الفيلسوف
(وإن على العاقل أن يخاطب الجاهل، مخاطبة الطبيب للمريض، والصاحي للسكران، فكلما كبرت الزيتونة انحنت، وكلما ازداد علم العالِم تواضع. ومهما حرصنا على انتقاء كلماتنا، سنجد دوماً مَن يسيء فهما وتفسيرها.. ومن يستمع إلى ما يقوله عنه الآخرون، لن يعرف السكينة أبداً).